القرآن المتجدّد والنّخبة القديمة

Photo

الهستيريا التي يتكلّمون بها دليل على أنّ الدّائرة تضيق عليهم.. هي نخبة قديمة تحتضر تركت أثار حقدها ونفيها للآخر في العقول فأنتجت أجيالا خاوية تعيش الفراغ وتتّجه نحو الدّمار وتفقد الإحساس بالانتماء فتبحث عنه في تعبيرات غريبة ومجنونة لعلّ الإرهاب أحدها حين يصبح انتقاما للذات الخاوية.

هي نخبة تدّعي الحداثة ولا تعلم أنّ الحداثة تقتضي التطوّر الدّائم عبر المراجعة والنّقد والتّعديل والنّقض والبناء من جديد ورجّ الثّوابت وزعزعة البديهيات ولو كانت مقولات حداثيّة كي لا نقع في الأصولية المضادة: الأصولية الحداثية المقدّسة.

والقول بأنّ القرآن دين عنف هو ترديد ببغّائيّ لمقولات مستوردة تدلّ على تبعيّة فكريّة لنخبة لم تستطع أن تنعتق وتؤسّس فكرا مستقلّا يحترم خصوصيّة الشّعب الذي تنتمي إليه. فكلّ الشّعوب التي تحترم نفسها أعادت النّظر في المسألة الدّينيّة واليوم نجد في بعض المجتمعات التي يشهد لها بنجاح تجربة التعليم المنتج للإنسان السّعيد ( النّورفيج على سبيل الذّكر) نجد التربية الدّينيّة من المواد الرئيسيّة وبضارب قويّ وهو دليل على أنّ الجانب الرّوحاني الذّي يستمدّ وهجه من الدّين يظلّ جزءا هامّا ومكوّنا أساسيّا من سعادة الإنسان.

أمّا هنا فظلّ مداحو العلمانيّة في مأزق. فهم يمزجون قصدا بين الإسلام والأحزاب الإسلامية ( أعداؤهم ) وحين دخل الإسلاميون الأعداء لعبة الدّيمقراطيّة في سحب للبساط من تحت أقدامهم لم يجدوا حلّا سوى مهاجمة الإسلام ذاته عبر انتقاء ما يساير أهواءهم متغافلين أنّ كلّ الكتب السّماوية تتضمّن دعوة صريحة إلى العنف وكان ذلك في سياق تاريخي معيّن.

انظر الانجيل تجد دعوة إلى ذبح الأعداء وإخضاع النساء ففي انجيل لوقا نجد على لسان المسيح عليه السّلام: " أمّا أعدائي أولئك الذين لم يريدوا أن أملك عليهم فاتوا بهم إلى هنا واذبحوهم قدامي ". وفي الحديث عن المرأة نجد: " لتتعلّم المرآة بسكوت في كلّ خضوع " وهذا العنف كما يتمّ تفسيره اليوم من بعض رجال الدّين المسيحيين هو عنف ضدّ الظّلم وضدّ زيف المجتمع وهو التّجديد الذي أقدم عليه رجال الدين هناك عبر انتقاء النقاط المضيئة في الكتاب المقدّس ولذلك حين تلج كنيسة اليوم تسبقك روح التّحديث للدّين التي تؤكّد على قيم التّسامح ونبذ العنف وغيرها.

وهي النقاط التي يعجّ بها ديننا وكان علينا التقاطها وبناء رؤية للدّين حديثة من خلالها من أجل حسم علاقتنا بالمسألة الدّينيّة على أساس: " وأمّا ما ينفع النّاس فيبقى في الأرض ". وما ينفع النّاس في ديننا الإسلاميّ كثير وكثير جدّا وهو قادر على تحقيق حالة الارتواء الرّوحاني المنشودة وحالة العشق للحياة لو نجد من يعيد إنتاج الخطاب الدّينيّ إنتاجا يستجيب لانتظارات الحاضر ولا يكتفي بالقراءة المسقطة والحيرة الواهمة التي تنبش في قضايا المثليّة أو في المساواة الخاطئة.

انظر الآيات في الرّحمة والعدل والتّسامح ورعاية الفقير ورفض الظّلم وصون العرض: " إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان.." وأيضا " ومَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ".. وغيرها كثير لنبني هذه الرؤية إلى العالم التي ينطوي عليها النص القرآني.

وفضلا عن العجز عن القراءة المستنيرة فإنّ " علمانيّتهم " كانت علمانيّة عرجاء. فهي علمانيّة تأبى أن تعترف بأنّ الدّولة العلمانيّة هي التي تتيح للفرد الحريّة الكاملة أن يمارس شعائره الدّينيّة وتوفّر له الفضاءات الملائمة لذلك وتسمح له بالتلقّي السّليم والعلمي داخل فضاءات مراقبة بدل التلقّي المشوّه من " شيوخ " يتاجرون بالدّين. إنّها الدّولة التي تحمي الدّين من التّوظيف السياسي وتسمح بممارسة الحريّة الدّينيّة. وفي المقابل فهي توهمنا بالدفاع عن الشّذوذ والعراء والحريّة الجنسيّة وتدعو إلى حماية أصحابها والاعتراف بهم في إيهام لذاتها قبل الآخرين بأنّها تقود قطار الحداثة وأنّها سابقة بأشواط للرّجعيين الذين مازالوا لم يتحرّروا بعد من عقد الماضي وترسّبات التّاريخ.

لقد صار الشواذ والمثليون أدواتهم التي يوظّفونها بمكر لإثبات شرعيّة عدائهم للآخرين بعد أن ثبت تهافت مشروعهم الحضاري المتّكئ على روافد الآخر الذي يعيش بدوره خلخلة وتزعزعا مستمرّا لمقوماته حتى أنّه يشهد اليوم عودة إلى الروحانيات وإلى الرّموز للنّجاة من حضارة مقرفة وخراب محيط.

إنّ الدّائرة تضيق عليهم لذلك تتملّكهم الهستيريا فهم يدركون أنّ المرجعيّة الفرنسيّة بالذّات وهذه " اللّادينيّة " التي لا يفهمون الحداثة دونها تخضع اليوم لمراجعات كثيرة ففي عالم مصمّم على السّقوط نحو العدم نتيجة سياسات اقتصاديّة واجتماعيّة جشعة مدمّرة للإنسان يزداد اندفاع الإنسان هناك أيضا نحو الدّيني بديلا عن اللّاديني للاحتماء من التوحّش الذّي فرضته عليه ليبيراليّة " محيونة " أنتجت القلق والألم وأفقدت المعنى.

إنّها نخبتنا التي تعيش انتفاضة الدّفاع الأخيرة عن الوجود وقد صارت مهدّدة في وجودها بعد أن انحسر عنها النّقاب ولفظها مجتمعها لأنّها خذلته.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات