مخالب " البلديّة "

Photo

فضل الصّدامات التي تحدث بين الفينة والأخرى في خضمّ معارك كثيرة نعيشها أنّها تفضي إلى انفجار المكبوت التاريخي الذّي لايزال يحتلّ مساحة كبرى في اللاوعي الجمعي وفي الذاكرة المشتركة. المكبوت الذي يسيل على الألسن ويتحوّل إلى مواقف وأفعال وإلى شراسة في الخطاب أحيانا تبرهن على أنّ الكثير لايزال ينام على أوهام الماضي ويتوسّد مخدّة الزّمن القديم ليطمئنّ على وجوده في واقع يعيش تقلّبات ويسعى ببطء وبكثير من الكسل والوهن إلى الجديد.

أمّا أحلامهم فهي الإبقاء على أمجاد تالدة حتى وإن كانت واهمة وذلك بالإيغال في التعالي وإيجاد مسافات اجتماعية ونفسية وسلوكية بينهم وبين الآخرين ووسمهم بغلظة الطبع والفظاظة طباع البداوة مقابل اللين والرقيّ طباع الحضر بحثا عن هويّة تميّزهم وتضمن بقاءهم في أعلى السلّم الاجتماعي وتضمن بذلك حيازتهم على مراتب ومناصب لا ينبغي أن تخرج من أيديهم توارثوها في كثير من الأحيان أبا عن جدّ واحتكروها تحت مسمّى " البلديّة " مضفين على وجودهم في هذه المناصب المشروعيّة التاريخيّة التي تجعلهم " شعبا " متحضّرا مقابل أخر " مستهجن ".

وهو ما نلمسه على امتداد التاريخ من ذلك ما ذكرته كتب التاريخ من كون كلمة " زوالي " تعود في أصلها إلى العصر الفاطمي إذ كان يلقّب كل من يقيم خارج أسوار مدينة المهدية ب " الزوالي " نسبة إلى " باب زويلة " الذي كان يفتح على البادية وتشير الكلمة بذلك في أصلها إلى غير المتحضّر مقابل المتحضّر الذي يقيم داخل المدينة.

المحنة أن تبقى طوال هذه المدّة النظرة نفسها مع إقامة حدود جديدة تزيد في تضييق الانتساب إلى ما يسمّى" البلديّة " فهي لم تعد تشمل كلّ سكّان المدينة بفعل التمازج الكبير الحاصل نتيجة حركات التنقل والهجرة بل أصبحت تشمل بصورة خاصّة " البلديّة " من أصول تركيّة خاصّة وهو ما يجعل التضييق يتحوّل إلى حماية ذاتية لدى هذه الفئة من الانصهار داخل مجموعات أخرى لتظلّ دائما محافظة على مكانتها " الأرستقراطية " وهو ما يتيح لها التمتع بامتيازات كثيرة.

بعض هؤلاء ينشبون مخالبهم كلّ مرّة ومع كلّ تغيّر ما قد يهدّد وجودهم ويجعلهم يستشعرون الخطر من القادمين من وراء " الأسوار " فيتحوّلون إلى قوّة شدّ إلى الوراء وهو ما حدث على امتداد تاريخ كامل. ويتجلّى الشدّ إلى الوراء في خطابهم " الرجعي " " السلفي " في " بلديّته " وهو خطاب يثير غبارا كثيرا من الحنين إلى المجد التالد الموهوم مقابل " الغازين " الذين جاؤوا من وراء " اللافتات " لينافسوهم المجد.

ولم ينج من هذا الوهم سكّان المدينة من المنحدرين من أصول أولى ريفية إذا صاروا بعد إقامة طويلة في المدن محكومين ب " نعرة " البلديّة " فتجدهم يتحدّثون عن " البرّاني " وعن " ولد البلاد " في تمييز يعبّر عن تقمّص لصفة " البلديّ " أو عن رغبة في الإيهام بذلك.

وما نستقرئه اليوم إثر انفجار النقاشات حول المسألة هو أنّنا لم نتجاوز بعد مربّع الجهويّات ولم ندخل بعد ثقافة المواطنة التي تأبى هذا التمييز. ولعلّ الأمر يحتاج دخول الحداثة في قيمها ومبادئها الكبرى لنستطيع أن نتجاوز هذه الشروخ العميقة التي تبان شقوقها الحادّة كلّ مرّة إثر نقاشات حادّة.

ودخول الحداثة يحتاج أولا تحرير الإنسان من أوهامه وإيقاظه على حقيقة الهوية المركبة التي تجعل كلّ هذه العناصر الاجتماعية التاريخية التي تتشكّل منها عناصر الهوية مجالا للإثراء لا للتباغض ومجالا للعيش المشترك في بهاء تنوّعه وجمالية اختلافه لا في استعلائه البغيض الذي يتيح ظهور الفساد والأصولية والاحتقار والإهانة المفضية إلى تشكّل الهويّات القاتلة.

كلّ ما يحدث جيّد لأنّه يحرّك برك الماء الآسنة فتخرج الروائح وتفوح الأفكار المنحبسة في القاع وتخرج كلّ شراستها المختبئة ومخالبها التي تجرّح في نسيج المجتمع الذي لم يتعافى من جراحه التاريخيّة بعد.

مازال هناك الكثير كي تسقط هذه الأقنعة وقناع " البلديّة " أحدها لنتبيّن النخبة التي تختبئ وراءه والتي تخبش بمخالبها من يمسّ مصالحها أو يسعى إلى كسر الدائرة غايتها المحافظة لا على ذاتها فحسب بل على هذه الشروخ التي تضعف المجتمع وتجعل الدّخول إلى عصر الحداثة مؤجّلا دائما إلى زمن غير مسمّى مادام القديم لايزال يتربّع على عرش التاريخ مستهينا بالإنسان ساخرا من أحلامه في التحرّر من قديم طاغ في القاع وإن أوهم الجديد بمنازعته واحتلال بعض زواياه.

حرّاس معبد " البلديّة " يمنعون أن يكون كلّ إنسان إنسانا نبيلا في ظلّ ديمقراطّة حقيقيّة تحترم الإنسان وتسوّي بينه وبين الآخرين في القيمة والمعنى.

إنّها إعادة إنتاج عقليّة بائدة يريدون لها البقاء رغم التغيّرات التي تحدث في الثقافة وفي العقليّة. وهي الحفاظ على المسافة، مسافة الأمان التي تقلّصت بفضل التعليم ونشر المعرفة التي أتاحت تألّقا اجتماعيا لغير سكّان الحاضرة منذ عقود.

وهم هنا لا يختلفون عن حرّاس معابد أخرى: معابد الدّين والحداثة واليمين واليسار والنسويّة والمثليّة. والمشترك هو إقامة الأصنام التي تمنع التفكير الحقيقي في مشكلاتنا: مشكلات التقدّم خطوات في اتّجاه تحقيق إنسانية الإنسان هنا والآن.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات