انتهى زمن الأنبياء..

Photo

وأنا أشاهد صورة السيّد وزير التربية مع مسؤولين وإداريين ومربين يحيطون بأطفال يحملون صور الوزير وقد كتب عليها: نحن أمانة بين إيديك سيدي الوزير " تذكّرت عبارة قرأتها في كتاب " الإهانة " للمفكر المغربي الكبير المهدي المنجرة يقول فيها: " لنا التّعليم الذّي نستحقّ"

فركت عينيّ مرّات وأنا أنظر إلى الصّورة . في لحظة شعرت أنّي في زمن سابق وأنّ الصّورة بنفسجيّة وأنّ صاحب الصّورة بشعر أسود شديد السّواد وأنّ الأطفال يرفعون صورته كما جعلوهم يرفعونها دائما وأنّهم يهتفون كما يهتف روّاد الشّعب: نحن أمانة بين إيديك سيدي الرّئيس..

لا شيء حدث سوى أنّ صاحب الصّورة صار الوزير بدلا من الرّئيس..

ولا شيء حدث سوى أنّ التّعليم العمومي ظلّ كما كان دائما مرتعا لنزوات السّياسيين ومصالحهم وواجهة لتجميل أدائهم وسبيلا لتحقيق مطامحهم مقابل تقزيم دور المربي الذّي صار ، كما يتكتّم عليه الشّعار ولا يبوح به، خائنا للأمانة..

أليس لنا التّعليم الذّي نستحقّ؟

في الشّعار المرفوع " نحن أمانة بين إيديك سيدي الوزير " معان كثيرة مسكوت عنها ودلالات مفتوحة على كلّ الاحتمالات ..

في الشّعار افتراض لوجود خطر يهدّد الأطفال.. فهل مصدر الخطر هو المؤسّسة ذاتها أم هو المربّي؟ وهل أنّ المنقذ البطل هو الوزير؟ وهل أنّ مصير أطفالنا صار رهين وجود هذا الوزير تماما كما كان الوطن دائما رهين أشخاص؟

في الشّعار شخصانيّة عميقة تجعل التّعليم مرتبطا بالفرد لا بالمشروع.. هكذا كانت مشكلة الوطن دوما.. ارتباطه بأفراد لا بمشاريع فإن غابوا غابت وتلاشت ..

ودون ذلك، فالأدهى أن يكون بعض المربّين هم من دفعوا التّلاميذ إلى كتابة هذه الشّعارات فكانوا بذلك مساهمين في خلق ثقافة " الاستجداء " وثقافة التملّق في نفوس تلاميذ يفترض أن نؤصّل فيهم قيما أخرى ويفترض أنّهم محور العمليّة التّربويّة التي يساهم فيها الجميع بدءا من الوليّ إلى المربّي إلى الإدارة إلى الوزارة إلى الوزير..

والسيّد الوزير في كلّ هذه السّلسلة ليس سوى حلقة من حلقات كثيرة وهو موظّف ضمن موظّفين يعملون على مشروع وطني هو مشروع التّربية والتّعليم.. وليس لأيّ كان فضل في ما يفعل بل هو الواجب الوطني لا غير..

إنّ ثقافة المواطنة التي رفعت شعارا برّاقا زمن الفترة الانتخابيّة ليست كلاما.. إنّها ممارسة تبدأ من الوعي بأنّ دور الوزير كدور المربي كدور الولي كدور حارس المعهد كدور النّقابي إنّما هو التّأسيس لمشروع جديد ولثقافة جديدة تقوم على المشاركة وعلى النّقد والمساءلة لا على التملّق والمجاملة، وأنّ الحلّ ليس فرديّا والتّعليم ليس ساحة بطولة وصولات وجولات بل هو مواجهة لمعظلات كبرى عالقة أهمّها غياب المشروع التّربوي الواضح في ظلّ الصّراعات الإيديولوجيّة التي لا تعني التّلاميذ في شيء.

المشروع يعني بناء الإنسان الذّي يمتلك اللّغة فامتلاك اللّغة امتلاك للوجود والمصير ويمتلك أدوات التّفكير والتّحليل والنّقد ليكون قادرا على التّمييز بين الأفكار والرّؤى والأطروحات ويمتلك أيضا القيم التي بها يواجه وجوده ويؤصّله فلا يكون هدفا لتجّار العصر الحديث: تجّارالسّياسو وتجّار اقتصاد السّوق و تجار الدّين وتجار السّلاح ..

فهل يمتلك السيّد الوزير الحلول الفرديّة السّحريّة لإنقاذ التّلاميذ من عبوديّة العصر الجديد وتوحّشه؟ وهل هو قادر وحده على أداء الأمانة أم أنّ الأمر يقتضي تجنّد الجميع وحشد كلّ الطّاقات من أجل وضع الأسس الأولى لتعليم بمواصفات عالميّة قادرة على حماية الأطفال وبناء الإنسان السويّ؟

إنّ التّعليم الذّي يبنى اليوم على عقليّة قديمة وممارسات قديمة وارتهان للأشخاص وتوظيف سياسيّ وايديولوجيّ للتّعليم لا يمكن إلّا أن يفضي إلى نفس النّتائج: عقول مهدورة وذوات خاوية من القيم تبحث بكلّ السّبل عن حلول فرديّة لوجودها.

لقد انتهى زمن الأنبياء منذ أبد بعيد ولم يعد هناك أشخاص قادرون على إنقاذ الإنسان ذلك أنّ عطب الإنسان اليوم هو عطب النّظام برمّته وتغيير " السّيستام لا يحتاج أشخاصا بل يحتاج قواعد وآليات ومضامين ورؤى جديدة أمّا الأشخاص الذّين ترفع صورهم فعابرون كما عبر آخرون.

التّعليم يحتاج قواعد وقيم جديدة قوامها رؤية استراتيجيّة تجعل من الإنسان غاية وهدفا: الإنسان المنتج الخلّاق الحرّ لا الإنسان الخاضع لفعل الإذلال المقنّع المهين للعقل والنّفس المعطّب للرّوح.

أظنّ أنّ الأطفال الذّين رفعوا الشّعارات قد حمّلوا السيّد الوزير ما لم يحتمل.. وأظنّ أنّ الأصحّ أن نعتبر الوطن أمانة بين أيديهم هم.. وأن نشعرهم بذلك فيتربّوا على الشّعور الوطني والإحساس بالمسؤوليّة الجماعيّة المشتركة بدل الحلول السّحريّة لوزير انكسرت في زمنه كلّ العصيّ السّحريّة..

الوطن أمانة بين أيديكم يا أطفال تونس..

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات