تائهون نحن ونحتاج " هجرة إلى الإنسانيّة " بلغة الفيلسوف التونسي فتحي المسكيني. هذه الهجرة لا أراها " فرارا ميتافيزيقيا نحو مناطق الإنسانيّة أو مناطق تدّعي أكبر قدر ممكن من القيم الإنسانيّة راهنا " أي هجرة مكانيّة إلى بلدان الشّمال كما هي قائمة وكما نمارسها وكما شخّصها الفيلسوف، بل أراها هجرة داخل الذّات إلى المناطق الإنسانيّة المعتّمة داخلنا فنضيئها من أجل مستقبل إنسانيّ لنا.
فنحن أمام كلّ حدث نستيقظ على حيرتنا الإنسانيّة وعلى تضاؤل كمّ الإنساني فينا نبحث عنه كأنّما نبحث عن قطعة نقديّة فقدناها في الطّريق. ومن تجلّيات هذا التّضاؤل أن نوجد، وهما وقسرا، ضدّنا المتوحّش واللّاإنساني كي تؤكّد إنسانيتنا وكأنّما الإنسانيّة أمر غريب عنّا وكأنّما هي بضاعة مستوردة لا بدّ أن نقتنيها ونرتديها ونرى مدى ملاءمتها لنا.
نتعرّى في لحظة من ثوب التوحّش الغليظ والخشن والبدائي لنرتدي ثوب الإنسانيّة النّاعم والحريري فيتحوّل " الإنسانيّ " إلى ضرب من التّمظهر والاستعراض يغيب فيه الصّدق أحيانا. إنّه أمر مركّب ومعقّد. فأن نضخّم ظاهرة الشّماته لنؤكّد إنسانيتنا غير المؤكّدة دائما هو أمر مفتعل يجعلنا غرباء عن هذه الإنسانيّة، وأن نحوّل الشّماتة من موقف عابر عارض إلى موقف قار وثابت هو أيضا تضخيم مبيّت واستفزازيّ غايته ضرب الآخر بطريقة لاإنسانيّة وادّعاء إنسانيّة أرقى وأعلى لدينا.
إنّها في الأصل معركة مع الذّات التي لا تثق كثيرا في إنسانيتها فتصارع توحّشها المقيم في عتمة الذّات ومغاور التّاريخ النّفسي وكهوفه وومحاجره وترسّباته بفرقعات قويّة تخلّف دخانا كثيفا من الإنسانيّة.
فرقعات الإنسانيّة لدى البعض تتحوّل إلى إنسانيّة مزيّفة لأنّ الإنسانيّة بطبعها هادئة وانسيابيّة وليست مناسباتيّة. أن تكون إنسانيّا يعني أن لا تضخّم الظّاهرة لتظهر الشّفقة وتكثّف الدّعاء كأن تحوّل بتر جزء من الكعب إلى بتر للسّاق ثمّ ترفقها بصورة لساق مبتورة لا أدري من أين جاءت وبدعاء مبالغ فيه بالشّفاء.
فتضخيم فعل البتر أمر غريب عن الإنسانيّة. تضخيم فعل البتر يعني أنّنا نكابد ألما ما نريده أن يكون لنكون إنسانيين، يعني أنّنا نشعر بشيء ما قلق ومختلّ فينا. فنحن نصارع التوحش فينا ونخفق غالبا. نصنع الظّاهرة ثمّ نظهر عداء لها كي نظهر فيض إنسانيتنا. تماما كما نفعل حين ندّعي وجود طبيبة محجّبة ترفض فحص مراهق مصاب في عضوه التناسلي كي نظهر فيض " حداثتنا ".
وتماما كما يفعل الغرب حين يدعم التوحّش ثمّ يقدّم المساعدات ليظهر فيض إنسانيّته. هل تقمّصنا هذه الازدواجيّة؟ لعلّنا. وهل تحرّرنا يوما من الازدواجيّة؟ إنّها فينا نعيش بها ونتعايش معها.
أن تكون إنسانيّا أيضا يعني ألّا تقزّم التوحّش الحقيقيّ وألّا تعتّم وتنسى. تنسى أفعالا لا إنسانيّة كبرى ارتكبت في حقّ شعوب وأطفال ومدن وتاريخ. كأن تسعى إلى الإقناع بشرعيّة وجود فنّان يدعم الكيان الصّهيوني جهرا على مسرح قرطاج ويشرّع بتر أرجل وأيدي الأطفال لأنّ أمّهاتهنّ قد أطلقتهنّ في الشّوارع. الإنسانيّة ليست مفتّتة: إنسانيّ هنا ولاإنسانيّ هناك. إنّها كلّ واحد لا يمكن قضمه متى شئنا ولا رشّ بعضه من قنّينة عطر إنسانيّة مغشوشة لإخفاء بعض مطبّاتنا ومزالقنا وهرطقاتنا.
طوفان الإنسانيّة يخفي شروخا عميقة. ففي غفلة التاريخ غير الرحيم بنا غفلنا عن الرّحمة أولى القيم التي أوصى بها الأنبياء. تدثّرنا بالقسوة وصرنا أعداء يقتل بعضنا بعضا معنويّا مع أوّل خطأ أو زلّة أو سقطة أو عثرة أو مرض وأحيانا مع أوّل موت. حتّى الموت. حتّى الموت.
وفي لحظة تأنيب تاريخيّة يغمرنا طوفان الإنسانيّة ونغرق فيه حتّى الموت. وقد نحتاج تاريخا طويلا من الدّماء ومن العداء ومن الدّعاء كي نستعيد بعضا من الرّحمة التي ضيّعنا والتي تظهر أحيانا في شكل بالونات إنسانيّة منفوخ فيها بكثرة إلى درجة انفجارها بسرعة لتعود النّفوس التي تشرّبت قسوة التّاريخ إلى قسوتها القاتلة.
ومازال الطّريق أمانا طويلا في هجرتنا الدّاخليّة نحو إنسانيتنا. مازال الطّريق طويلا نحو توازننا الإنسانيّ الذّي يعني ألّا نسير سيرا أعرج وفق رغباتنا ونزواتنا وانفعالاتنا التي لا تنتهي ولا تهدأ. ألّا ننساق وراء ثقافتنا الغضبيّة التي تحجب هزيمتنا الإنسانيّة. فالإنساني فعل يوميّ يكمن في تفاصيله الصّغيرة أكثر ممّا يتجسّم في الفرقعات الكبيرة. إنّه فعل بسيط وبسيط جدّا كأن يقدّم طفل صغير قطعة خبزه الوحيدة إلى قطّ جائع مشرّد في الطّريق، كأن تغفر للآخر خطأه العاشر دون أن تقول له: " ربي يهديك " في ادّعاء أنّك أنت لا تخطئ في حين قد تكون ارتكبت في حقّه الخطأ العشرين.
فرقعات الإنسانيّة كفرقعات التديّن كفرقعات " الإلحاد " كفرقعات الحداثة كفرقعات الأصوليّات كفرقعات الحبّ كفرقعات الكره تكشف تطرّفا عميقا في شخصيّتنا القاعديّة. صاخبون نحن كرعد وسطحيون في مشاعرنا كسحاب لا يبكي.
من الإنساني أن نقول للأخر الذي تختلف معه حتّى النخاع والذّي يعيش محنة الموت أو المرض: أنا أحبّك وأريدك أن تحيا. حتّى هيئتك وأغنياتك التي كنت أنفر منها صرت أحبّها. سأقف معك حتّى تمرّ محنتك ثمّ سأقارعك حين تقف على قدميك.
حين تقف على قدميك..