لم أستغرب انفجار الشّماتة ثانية..فالشّماتة هي رغبة الذّات المهانة المقتولة رمزيّا في الثأر من القاتل أو ممّن تتصوّره في مخيالها قاتلا.. قتله رمزيّا والانتقام التّاريخي من الغريم في الدّاخل بعد أن اكتظت النّفوس في مستنقعات التّاريخ بالحقد .. إنّها عقدة مصطفى سعيد..
وكره الشّماتة كره أعمى فهو لا يميّز بين الحكومات والشّعوب وبين قوى المال والشّعوب وبين الشّركات الاحتكاريّة والشّعوب وبين اللّوبيات والمافيات والشّعوب وبين تجّار السّلاح والشّعوب.. تجّار السّلاح الذّين يتلذّذون الحرب على الإرهاب بعد أن تلذّذوا الإرهاب فكلاهما يخدم مصلحته. لا فرق بين الإرهاب وبين الحرب عليها مادام صفقات السّلاح تتكاثر في ظلّ تكاثر الحروب ومادامت أرباح شركات السّلاح صارت أرباحا خياليّة وفق معلومات مصرّح بها.
كره الشّماتة كره أعمى لأنّه لا يرى ولا يميّز ولا ينسّب بل تحكمه الوثوقيّة والإطلاق ولا يصدر عن العقل بل عن ذات جماعيّة متصدّعة اتّسعت شروخها التّاريخيّة فابتلعت الإنسانيّ فيها ولذلك فهو يصعّد من النّفوس شرسا عنيفا.
هذا الكره يرتدّ أيضا من الآخر كرها مضادّا أشدّ شراسة. فأكبر " تاغ " على التويتر إثر الضّربات الإرهابيّة ببروكسيل هو: أوقفوا الإسلام .. وقد رفع الشّعار بالانقليزيّة وراج بقوّة بين الكثيرين الذين لم يبذلوا جهدا كبيرا في الفصل بين المجموعات الإرهابيّة والإسلام وبين داعش والإسلام فصار الإسلام هو الإرهاب والإرهاب هو الإسلام..
" أوقفوا الإسلام "خطاب يتبنّاه جهرا أصحاب كره الشّماتة في الدّاخل.. هنا.. في بلادنا.. الشّماتة في العدوّ السّياسي الذّي لا تمرّ مناسبة دون اتّهامه بالإرهاب وأيضا دون إحداث الخلط المقصود المتعمّد بين الإسلام والإرهاب وبين الأحزاب الإسلاميّة والإرهاب وحيث يصبح الخطاب تقمّصا لخطاب الآخر الحاقد على الإسلام وعلى أحزاب إسلاميّة بدأت في مراجعة خطابها وقراءتها للعمل السّياسي وعلاقته بالدّين.
أصحاب كره الشّماتة في الدّاخل أشدّ وأعتى ممّن في الخارج إذ أنّهم في كرههم الأعمى يحرّضون على قتل الإرهابي بدل إحالته على القضاء فيكشفون " توحّشهم الحداثي " الذّي لا يختلف في شيء عن " التوحّش الحداثي " لإمبراطوريّات الإرهاب الحديثة: لوبيات المال الملوّث بالدّماء وشيوخ الدّين الملوّثين بالنّفط وتجّار السّلاح الضّاحكين من غباء البشر وأشدّهم غباء مثقّفو ومثقّفات مشاريع " الحداثة المزيّفة " في بلادنا هؤلاء الذّين يرون القضاء على الإرهاب في القضاء على أعدائهم التّاريخيين فينفثون سمومهم في تحاليل مخاتلة ومموّهة وسطحيّة تكشف عدوانيّة مرضيّة لا يمكن الشّفاء منها ويتغافلون عن الحفر في التّربة العقيم التّي أهّلت لإنتاج الفرد " الإرهابي " الهشّ نفسا المعطّب عقلا وروحا الباحث عن دور له في الحياة ولو كان دور القاتل بعد أن سلبت منه كلّ الأدوار، ويتغافلون عن عالم فقد صوابه ولم يكن يوما عاقلا وهو يسرع إلى الدّمار مختنقا داخل شرنقة العبث والجشع والاستخفاف بالإنسان.
لقد فقد العالم صوابه وأفضل وسيلة لاغتيال الصّواب هو الإرهاب..
كيف نشفى من كره الشّماتة؟
هل يمكن أن نشفى من كره الشّماتة الضّارب في التّاريخ؟
سيظلّ تجّار السّلاح كتجّار الأدوية كتجّار السّياسة كتجّار القضايا كتجّار الإعلام يصنعون الكراهية والأمراض والحروب والفتن ويدفعوننا إلى الشّماتة في بعضنا البعض قتلا وتنكيلا وسيضحكون كثيرا وسيغنمون المال والضّحك معا وهم يشربون على نخب جثث القتلى من كلّ الأجناس والألوان والملل والنّحل وسيعيدون كلّ مرّة تشكيل خارطة العالم وفق مشيئتهم تقسيما وتفتيتا وتجزئة وسيتّخذون الدّين أداتهم الأولى لصنع الغزاة من أجل هندسة الخراب.
وسط هذا الجنون ترتفع أصوات هادئة عميقة رصينة كصوت كمان رقيق وسط الصّخب الحاقد فنرى نقطة ضوء وسط العتمة.
تقول إحدى النّاجيات من تفجيرات الميترو في مايلباك: لن أدين أحدا ولن أدعو إلى إرسال أحد إلى وطنه.. فمن سعى إلى قتلي ومن قتل ركّاب الميترو لا جنسيّة له ولا دين ولا يمثّل غير التوحّش والبربريّة والجنون."
وتضيف: نعم نحن نبكي ونتألّم.. بروكسيل تحت الصّدمة.. ولكنّنا لن نكون أدوات لدعاية عنصريّة.. لست أداة ولا رقما أنا فقط ناجية.. "
هذه هي ناتاليا البلجيكيّة التي نجت من الموت.. وهذا هو الإنسان.. يزهر داخل الخراب ويورق وسط الشّروخ وتخصب براعم الإنسانيّة فيه داخل الموت الأعمى.
هو الإنسان حين تصمد إنسانيّته فلا يسقط سريعا في هوّة العنصريّة والعدوانيّة والوثوقيّة وادّعاء الحقيقة.. وهو الإنسان حين يقف على حافة الهاوية ناجيا من الموت فيتمالك نفسه كي ينجو من التوحّش يربو داخله.. كي لا يهوي إلى القاع..
كم نحتاج الإنسان فينا.. هنا.. لنواجه تجّار الموت وتجّار الدّين وتجّار السّياسة والثّقافة.. وتجّار السّلاح الضّاحكين..