خريف السياسة

Photo

إثر كلّ حادث أو حادثة نستشعر قرفا كثيرا إزاء مشهد سياسيّ يعجز أصحابه وأحزابه وقواعده عن تخليقه فالنّفعية والذّرائعيّة هيمنت إلى درجة انحدار " المبادئ " حتّى عند " أصحاب المبادئ " وتهاويها إلى القاع كجسم قديم متداع لم تعد له جدوى. فالزّمن السياسيّ اليوم لدى البعض وبعد وهم التمكّن لم يعد يسمح ب " الشّعارات " و " المبادئ " التي " لا تسمن ولا تغني من جوع " .

ذلك أنّ التّموقع نسبيّا في السّلطة بعد إقصاء يجعل المواقف تنقلب بنسبة مائة وثمانين درجة وبسرعة عجيبة. فمن دافعوا عن نائبة النّداء مثلا باسم الدّفاع عن الحريّة الشّخصيّة ( رغم أنّ الكثير منهم يوميّا ينتهك الحريّات الشّخصيّة للبشر دون رادع ولا وازع دينيّ ولا أخلاقيّ ولكنّ الأمر يتعلّق بمصلحة سياسيّة ) هؤلاء مثلا لم يكلّفوا أنفسهم الدّفاع عن حقّ رئيس سابق في حريّة التّعبير الذّي هو دفاع عن مبدأ حريّة التعبير تماما كمبدأ الدفاع عن الحريّة الشخصيّة، بل انبروا في تحاليل افتراضيّة تنحو نحو المؤامرة وتدّعي ذكاء كبيرا في فهم اللّعبة وتصمت مادامت المعركة، في نظرهم، تصبّ في خانة عدوّهم الأصلي بل وتدافع عن الحليف الجديد وتتّهم الضحيّة في تقمّص عجيب لدور الجلّاد الذّي يبدو أنّهم تشبّعوا سلبيّا بثقافته إلى حدّ القيام بدوره معبّرين بذلك عن " طفوليّة " في المواقف لم تصل مرحلة النّضج الدّيمقراطيّ الحقيقيّ الذّي يقتضي دفاعا عن المبدأ دون النّظر إلى الشّخص وتاريخه والنّبش في أخطائه وتركيمها عن قصد لتحطيم رمزيّته وهو الدّور الذّي كان يقوم به الجلّاد.

الصّمت مشاركة في المنع والتّعتيم الذّي أصبح استراتيجيا كاملة غايتها تغييب كلّ الأصوات التي تنادي بمكافحة الفساد ومنع تبييضه عبر قوانين فالأمر لا يتعلّق فقط بالرّئيس السّابق بل هو خيار إعلاميّ يدفع إليه الصحفيون والإعلاميين ونتبيّن تجلياته في بعض وسائل الإعلام التي تحتكرها أصوات بعيدة كلّ البعد عن العمل الإعلامي الموضوعيّ.

في المقابل لم يستطع بعض من في الطّرف الآخر أو كثيرا منهم الارتقاء بالمعركة وتحويلها إلى معركة حريّة فكان رصاص الكلمات أشدّ وكان الانحدار أعتى وصار من يحملون مشروع " تخليق السياسة " أفشل من أن ينجحوا في فرض بديلهم فقد غلبت عليهم ثقافة القديم: ثقافة تقديس الشّخص والتعصّب له رغم أنّ الشّخص قدوة للتّفكير الحرّ والتّحليق الحرّ بعيدا عن محدوديّة السّجناء وعقليّة المناشدين وتعصّب الوثوقيين ورغم أنّ ما حدث قد يقتضي نقدا ذاتيّا فالقناة التي تمّ منحها الثقة لا تستحقّ الثقّة وما قامت به وما قد تقوم به من ألاعيب منتظر ومتوقّع دائما مادامت تحرّكها عصابات المال والأعمال التي تحوّل الإعلام وأصحابه إلى دمى تحرّكها وقتما تشاء وتطلقها وقتما تشاء وتكبح جماحها وقتما تشاء.

هي مشيئة سلطة المال والأعمال التي تتحكّم في المشهد السياسي والإعلامي اليوم وتمنع ظهور أيّ مشهد بديل آخر . وهي سلطة المال التي تتجاهل تماما الدّور القيمي للإعلام لتشتغل فقط على الرّبح والتّسويق والنّهب المضاعف: نهب الأموال ونهب العقول بتعطيبها ومنعها من التّفكير والتّلاعب بها باستدراج الجميع إلى لعبة قذرة في الوقت الذّي يعلم فيه الكثير أنّ هذه القناة وصاحبها من أشدّ المناوئين لكلّ نفس ثوريّ. لذلك كان من المحبّذ التّفكير في بديل إعلامي برؤية إعلاميّة وقيم إعلاميّة أو التوجّه إلى قنوات أكثر جديّة بدل اللّجوء إلى قنوات خاصّة قادرة على التّلاعب بكلّ شيء من أجل إثارة معارك خاسرة مسبقا.

لقد نقدنا في مناسبات عديدة الدّكتور المرزوقي نقدا مباشرا وصريحا وقلنا له كمستقلّين ما يعتمل في أنفسنا وكان يصغي إلى النّقد بانتباه شديد وهو الدّرس الأوّل الذّي ينبغي أن يتعلّمه أنصاره فالرّجل كغيره ممّن يحملون رصيدا كبيرا ورمزيّا في الفكر والنّضال يمكن أن تختلف معه ولكنّك تعيش معه جماليّة الاختلاف دون أن تعاقب على رأيك ( خلافا لما يفعله بعض أنصاره الذّين لا يقبلون الاختلاف ) ودون أن يغيّر ذلك لحظة مما تكنّه له من احترام، وهو بذلك أرقى بكثير من أن تدار حوله ، وفي الفترة التي يحتاج فيها وقوف الجميع إلى جانبه من أجل المبدأ، معارك بطريقة مبتذلة بين طوائف جمعها ماضي الاستبداد وفرّقها حاضر " الدّيمقراطيّة " غير الدّيمقراطيّ جدّا مادامت بيد أقوياء المال والإعلام ومتعلّمي السياسة.

كلّ حادثة تكشف أنّنا نعيش خريف السياسة.. خريف تتساقط فيه أوراق الجميع فيتعرّى البعض. وقد نحتاج " غسّالة نوادر " لنغسل كثيرا من الأحقاد والكراهية التي تفرّق القلوب. وقد نكتشف أنّ المستنقع كبير وأنّ الكثير يستعذب العيش فيه وأنّ المياه الآسنة غطّت الأبصار فإذا هم لا يبصرون وأنّ كلّ تحريك للمياه يفضي إلى انتشار الرّوائح الكريهة فالأمر يقتضي تغيير هذه المياه القديمة واستبدالها لتنتعش العقول وتنظف وتنتبه إلى أنّها تستبطن ثقافة القديم وسلوكيّاته التي ترسّخها لوبيّات الإعلام والمال وأطراف السياسة التّي تنتعش وتقوى وتوجّه الرّأي العام وفق ما تريد وسط هذه الأجواء المحتقنة والمعارك الخاطئة.

العودة إلى المعنى إلى الفكرة إلى المبدأ هو ما ينقذنا من الضّلال حين تعمّ الفوضى وتحجب الحقيقة. فالحقيقة هنا دائما ملتبسة هكذا يريدونها كي يتمّ التّلاعب بالعقول التي تظلّ تخبط وتمارس غوغاءها. والحقيقة لا تقال علنا بل يتمّ التّلميح إليها وفي التّلميح إثارة لغموض كثير مقصود ولردود فعل انفعالية ولمتاهات يقصدون ادخال الناس إليها قصدا.

يظل الموقف الأكثر احتراما هو موقف المدافع عن كلّ من يتمّ حشره في الزّاوية من قبل قوى الفساد للانقضاض عليه لأنّه مصدر إزعاج لهم. والمخزي أن يتقمّص من كان ضحيّة لسنوات طويلة دور الجلّاد ليجلد بصمته أو بغوغائه من يراد الانقضاض عليه بل ينطلق البعض لإلقاء التّهم جزافا والشّتم مجانا فقط لتوهّمه أنّه الآن في موقع آخر وأنّه " ضمن " سلامته الأبديّه داخل المركب المثقوب الذّي يحتمل غرقه في كلّ آونة.

يبدو أنّنا نحتاج عقودا طويلة قبل أن ننجح في تخليق السياسة والمجتمع والثّقافة ( ما كتبته إحدى الصحفيات التي تشتغل على الإذاعة الوطنيّة نموذج لدرجة الانحدار الأخلاقي التي يمكن أن يصل إليها البعض بدافع الحقد وأسباب أخرى) ويبدو الأمر مستحيلا مع قوى تمسك المال والإعلام والثّقافة ولا قيم وطنية وإنسانيّة لها فتشرّع كلّ شيء لبلوغ ما تريد ومع " طوائف " سياسية يقودها التعصب والوثوقية والشخصانية لا التفكير الحر الذي يقصد به تحرير العقل والإرادة وتحرير الإنسان أولا وأخيرا.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات