لم تكن ليلة انقلاب في تركيا فالانقلاب فشل لأنّ هناك شعبا ونخبة متماسكين مرّا بتجارب عميقة تاريخيّة أنضجت وعيهما وبسنوات طويلة مع الحكم العسكري لاتزال تحكم مخيالهما وتدفعهما إلى اختيار الانتخاب على الانقلاب. فضلا عن معاينتهما تطوّر التّنمية في تركيا سنوات الدّيمقراطيّة ومستوى العيش الذي صار عليه التركي. كلّ هذا الرصيد في الذّاكرة الجماعيّة للأتراك حمى تركيا من الانقلاب وجعل الشّعب والنّخب تتلاحم للدّفاع عن التّجربة.
الانقلاب ليلتها كان في تونس حيث انقلب الكلّ على الكلّ: اليسار على اليمين واليمين على اليسار والحداثيون على الرجعيين والرجعيون على الحداثيين والنّخب على الشّعب والشّعب على النّخب والنّخب على النّخب والشّعب على الشّعب. كان الأمر كأنّما هو جسد يتخبّط.
وكان الانفعال سيّد الموقف حيث تواترت جمل من قبيل: سأقضي على كلّ الخواانجيّة في صفحتي.. مقابل: سأقضي على كلّ الانقلابيين في صفحتي.. كلّ مارس " ديكتاتوريّته " العسكريّة على الآخر بتسلّط وغطرسة ولو كان بيده سلاح لأطلق الرّصاص.. وكان رصاص الكلمات أشد. وبسرعة ارتفعت صور بشّار وسبّح البعض باسمه وبصموده وارتفعت في المقابل صور أردوغان وسبّح البعض باسمه وبصموده.
كان كلّ يغنّي ليلاه تماما كما حدث في مناسبات كثيرة سابقة حيث يبلغ الاحتداد درجة الشّتم فالحذف وحيث تنفلت نزعات التشفي والشّماتة والتّفاخر والرّغبة في محو الآخر ورحيه في منطق يشبه منطق القبيلة لا منطق شعب قادر على حسن إدارة الاختلاف بينه.
كان ما يشغلني تلك الليلة: هل كلّ الشّعوب تصرّفت مثلنا تلك اللّيلة فأقصت وحذفت وشتمت بعضها البعض ثمّ نامت؟
كان الانقلاب هنا.. انقلاب على " ديمقراطيّتنا " التي ولدت على ما يبدو مشوّهة. فالحذف وعدم الإصغاء إلى الآخر والانقياد المجنون وراء أحكام التحزّب والإيديولوجيا الخانقة وعدم ممارسة النّقد الذّاتي وخاصّة رفض تطوير المواقف والتصلّب في المحافظة عليها مهما كانت ومهما كشفت الأحداث زورها وزيفها وخطأها والانزلاق في التّحقير والتّقزيم والحطّ من تجربة شعب تمكّن من لفت الأنظار إليه بموقفه الشّجاع وإيمانه القويّ بذاته دون تضخّم أو نرجسيّة أو شخصانيّة أيضا ( فالأتراك لم يرفعوا صور " أردوغان " وإنّما رفعوا رايات الوطن ) كلّ هذا دليل على أنّنا، هنا ، أمام ديمقراطيّة " مشوّهة " تمرّ بمرحلة عسيرة لأنّها لم تتحرّر من منطق القبيلة ولا العقائد المغلقة ولا زنازين الإيديولوجيا ولا الكراهيّة والوثوقيّة المنتجة للعقم.
الانقلاب هنا كان على أنفسنا. انقلاب " النّخب التي هلّلت وكبّرت فرحا. وانقلاب النّخب التي صمتت. وانقلاب النّخب التي قدّست. وبين تطرّف وتطرّف تعلن النّخب هزيمتها دائما باستثناء بعض المواقف المنفردة المتعقّلة في قراءتها للمشهد: رفض الانقلاب أيّا كان واحترام إرادة الشّعب التركي دون وقوع في التّقديس والتّمجيد للسياسة التركيّة المفتوحة ككلّ السّياسات على كلّ احتمالات الخطأ والانزلاق نتيجة الضّغوطات الداخليّة والخارجيّة حتّى في فخّ التّطبيع مع الكيان الصّهيوني.
يظلّ ما يعنينا نحن هو قدرتنا على التعلّم من تجارب الشّعوب الأخرى دون جلد وتحقير للذّات ودون تضخيم مبالغ فيه. فقد عشنا نحن أيضا زمنا ما لحظة شعرنا فيها أنّنا شعب عظيم أيضا. شعب لفت الأنظار إليه ولكنّه ضيّع هذه اللّحظة نتيجة انقسامه وانتهازيّة نخبه التي بقينا نعاني ضعفها واهتزاز مواقفها وانغلاقها العقائدي وغياب مبدئيّتها حتّى الآن فوجدناها تؤيّد الانقلابات وتسرع نحو التموقع والمناصب على حساب مصلحة الوطن.
وسنصير إلى ما نريد حين يصبح " العلماني " هنا مدافعا عن " الإسلامي " الذّي اختاره الصّندوق دون أن يقيم القيامة ضدّه تجييشا وحشدا وعصفا إعلاميّا ودون دعوات إلى الانقلاب ولجوء إلى السّفارات للنّجاة من " الغول " الإسلامي. وأيضا سنصير إلى ما نريد حين يدافع " الإسلاميّ " الذي يقع في كثير من الأحيان في قبضة الوثوقيّة وادّعاء امتلاك الحقيقة عن العلماني وعن حقّه في الاختلاف.
مع كلّ هذا تظلّ معاركنا الجوهريّة توحّدنا أكثر ممّا تفرّقنا: معارك ضدّ من يفسد علينا الدّيمقراطيّة والحياة هنا ويجعل التّونسيّ بعيدا بسنوات ضوئيّة عن شعوب أخرى في التّنمية والعدالة وكرامة العيش.
لنفكّر معا في هذا الدّود الأسود الذّي ينخر كيان الوطن ويمنعنا من التقدّم والتطوّر كبلدان كثيرة استقلّت في نفس الزّمن.. ولنؤمن بقدرتنا كمواطنين أحرار على أن نؤسّس للوطن الذّي نريد وللحياة التي نشتاق.
التّفكير المشترك والتحرّر من إرث العداوة الذي تمتلئ به القلوب هو ما نحتاجه في هذه اللّحظة التي نضيّع فيها البوصلة.. دأبنا دائما..