5 / 55

Photo

من لا مواطئ لهم للخسارة وحدهم الغانمون. من دخلوا الحياة، من امتلكوا المعنى وعاشوا في الوقت الضّائع بعد أن نجوا من الموت يأسا.. وحدهم الغانمون..

وهم وحدهم من يدركون جيّدا قيمة الخمس سنوات التي مرّت.. ويواصلون السّير في هذا الزّمن العاصف.

أمّا الخاسرون.. خاسرو الغنائم والمناصب والامتيازات فوحدهم لا يجدون في الخمس سنوات واقعا يلائمهم فيفرّون إلى سرديّة الخمس والخمسين سنة التي نسجوها بمحض خيالهم وبنوا في تفاصيلها وهم الدّولة الحديثة والزّعيم الذي لا يقهر والصّرح العتيد والمجد التليد ومحوا كلّ ما لا يتناسب والألق الذي يريدونه لأنفسهم في الوعي الجماعي. هم يكذبون ليتجمّلوا.

والخاسرون لدينا لا يقبلون الخسارة لأنّهم ليسوا ديمقراطيين كما يزعمون فهم يحملون من عنجهيّة الماضي الكثير وليست لهم القدرة على الاعتراف بالخلل البنيوي الكبير والشّروخ العميقة التي جعلت عرش الدّولة " الحديثة " يهتزّ ولا يمتلكون أيضا شجاعة النّقد الذّاتي ولا ثقافة المراجعة والمحاسبة ليفسّروا لنا سبب تأخّرنا عن بلدان كثيرة استقلّت في نفس الحيّز الزّماني. لذلك لا يزالون يصرّون على أنّ ال 55 سنة الماضية هي " المدينة الفاضلة " أو " دولة الخير " التي أفسدها الأشرار خلال 5 سنوات بعد أن دحروا " الأخيار " وأخرجوهم من " جنّتهم الضّائعة " التي يحلمون باستردادها.

هو القديم.. القديم الذي يأبى أن ينصرف.. ويريد عودا على بدء..
وهو الجديد.. الجديد الذّي يأبى أن يظهر..أو يظهر محتشما.. ويخشى إن ظهر أن يكسر ويرتدّ إلى قرار..

ومع ذلك.. فالخمس سنوات على ضآلتها في عمر الشّعوب وسيرورة التّاريخ وعلى إخلالاتها وثغراتها استطاعت نسبيّا أن تبني ما لم تبنه الخمس والخمسين سنة على ما فيها من دعائم لا يمكن إنكارها وهي دعائم أفسدتها النرجسيّة والشّخصانيّة وعقليّة الحزب الواحد والتبعيّة للدّولة الاستعمارية الأمّ ثمّ الدّولة البوليسيّة والممارسات الفاشية وتغوّل الفساد ثمّ التهافت على السّلطة..

والخمس سنوات هدمت وبنت.. ولعلّها تحتاج أن تهدم أكثر كي تستطيع البناء أكثر فالإرث كبير وثقيل ومتغلغل ويحتاج حفرا عميقا في القاع لاقتلاع ما تجذّر وامتدّت عروقه.

ومع كلّ ما بنته هذه السّنوات في عمر الوطن من حريّات ومن هيئات مقاومة ومعدّلة ومن نصوص ودساتير وانتخابات إلّا أنّ أهمّ ما أنجز في هذه الخمس هو الإنسان..

الإنسان الذّي يظهر خلال هذه الخمس خلسة وبصمت وببطء شديد رغم كلّ محاولات التزوير والتّزييف والتلاعب بالعقول وتبرير الفساد وتلفيق الحلول ورغم الإرهاب والتهريب والترهيب والتّخريب وكل ما يثير الرعب في هذا الوجود.

هل ترونه؟ هل ترون هذا الإنسان؟

إنّه هنا وهناك .. في مقاومته لأشكال الرّداءة بطرقه الخاصّة وفي سخريته من السّاسة الذين لا يحترمون إرادة شعوبهم وفي تهكّمه من إعلام فشل في أن يركّعه ويخضعه لاستراتيجيا تحكّم فانقلب ضدّها وفي القيم الرّافضة للفساد بأنواعه والكاشفة عن مواطنه وفي الرقابة المواطنية لمظاهره وفي أطفال يسخرون من " مثقفين " يتطاولون على الثورة وينعتونها بثورة البرويطة فيكتبون نصوصا جميلة تتغنى بصاحب البرويطة وبالثّورة وفي تلاميذ برفعون شعارات فلسطين والحرية والكرامة وفي شباب يرفض عبادة الأشخاص والسير الأعمى وراء الزعماء وفي أجيال تعيد قراءة التاريخ وترى القديم صار قديما لن يعود والجديد هو الجديد ولا بدّ له من وجود.

في 5 سنوات حدث كلّ هذا.. تحرّرت الأرواح والعقول ومازال البعض يحاول داخل الزنازين الفكريّة والإيديولوجيّة كسر القضبان ومازال آخرون يصارعون ما ترسّب في القاع من آثار الاستبداد لكنّهم سينعتقون حتما يوما ما.. هي حتميّة التّاريخ..

هي 5 سنوات فماذا لوكانت 50 ؟ أو 55 أخرى؟ ماذا سيحدث؟

أجل.. نحتاج إلى هدم الكثير ممّا بني في 55 سنة.. تماما كما تهدم البنايات الفوضويّة .. ففي مدن هندسة الخراب نحتاج الهدم السليم من أجل البناء السّليم.. نحتاج إلى هدم ما ترسّب في القاع الجماعي وتغلغل في السّلوك من غطرسة وجشع ومن كبر ووثوقيّة ومن انتهازيّة ومحسوبيّة ومن نزعات تقديس وتحجّر ويقينيّات كاذبة وعجرفة فكريّة لا مبرّر لها وأنانية مقيتة فضلا عن فساد بات كالملح في الأرض.

نحتاج إلى هدم الكثير ممّا بني. تماما كما نهدم الأبنية الخربة التي عشّشت فيها الغربان والخفافيش. يكفي أن ننظر قليلا في ما عشّش في المنظومة الصحيّة والمنظومة التّعليميّة من أدواء وما عشّش في الإدارة بأنواعها وأجهزتها ومستوياتها من فساد وأمراض حتّى ندرك أهميّة الهدم: هدم أنساق وأنظمة قديمة مغلقة أدّت إلى اهتراء هذه المنظومات وتداعيها. وهي أنساق تسعى إلى مزيد الانغلاق على نفسها في سعي إلى إنقاذ نفسها تماما كما تختبئ الطّيور الكارهة للنّور والحريّة في الحفر والأنقاض.

ما بني في 55 سنة بانت تصدّعاته وشقوقه في 5 سنوات وبرهن على أنّ مهندسيه يفتقرون إلى الرّؤية الصّائبة وإلى فهم طبيعة الأرض التي يقام عليها البناء حتّى يتلاءم معها فلا يكون بناء رغما عنها بل بها وفيها.

وما نفتقده حقّا هو الرّؤية العميقة الصّائبة التي تفهم المجتمع وحاجياته ومقتضياته وتكتشف طاقاته الكامنة وقواه الحيّة بدل محاولة التّصادم معه أو جرّ الماضي إلى الحاضر تماما كما يجرّ الآن الجواد المتنطّع وصاحبه إلى قلب العاصمة وإلى قلب ساحة الثّورة رغما عن إرادة شعب سيكتفي بالمراقبة وتسجيل اللحظة. إلى أمد قريب.

من يريدون جرّ الماضي لم يصغوا إلى صوت التحوّلات العميقة التي يعيشها المجتمع رغم سكونه الظّاهر. وهي تحوّلات تتعلّق خاصّة بتصوّرات الحياة التي نريد. وهي حياة لا نجدها في الماضي رغم كلّ محاولات تلميعه كما نلمّع بيتا قديما عمره 55 سنة. التصوّر الجديد يبحث عن إعادة ترتيب جديد للمعيش اليومي بصنع رؤى جديدة وقيم ونمط جديد للعيش مغاير يستجيب إلى تطلّعات الذّات في الحاضر وانتظاراتها.

وإنّ المساءلات العميقة اليوم المتصلة بالفساد وبالمحاسبة وبالثّروة وعدالة توزيعها وبالتّعليم وبالصحّة وبالمرأة وبالدّين وغيرها من المسائل التي يخوض فيها شعب برمّته والتي أنتجها ماض غير سويّ دليل على أنّنا إزاء مجتمع يعيش حالة جيشان واضطراب ويبحث عن بناء تصوّرات جديدة لوجوده المحتمل. إنّه مجتمع يعيش لحظاته الكبرى والعميقة عبر خوض صراعاته في مجالات مختلفة وواجهات عديدة وعبر السّعي إلى وضع أسس جديدة لاجتماع جديد مغاير للقديم الذّي لن يمكنه الرّجوع لأنّ التاريخ لا يعيد نفسه بل هو في تقدّم وتغيّر دائمين.

نحن في زمن الانتقال العسير المضني والشاق. وهو لا يحتاج 5 سنوات. بل قد يحتاج 55 سنة أخرى للخروج من كهف الديكتاتورية وما خلّفته من أضرار عميقة في البنى الفكرية والنفسية والروحية وفي البنى التحتية أيضا. وقد نحتاج أزمنة عاصفة أخرى..

ومن دخلوا الحياة وانتصروا للمعنى هم وحدهم الغانمون..

أمّا من ظلّوا واقفين في الطّريق يريدون العودة إلى الوراء فسيأخذهم الزّمن العاصف بعيدا..

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات