لم ينج أحد.. سوى زهرات تنجم من شقوق الأرض المقحلة. ولن ينجو أحد .. سوى من يجيد القفز على الرّمال المتحرّكة.
التّعليم هاوية تفتح فمها دائما لمن يريد أن يمارس السياسة في التّعليم، السياسة لا بمعنى حسن إدارة شؤون الناس بل بمعناها الضيّق أي توظيف التّعليم لغايات نفعيّة ومصالح سياسية ومقاصد إيديولوجية.
بن على اعتبر التّعليم مجالا واسعا لغسل الأدمغة وإرضاء الرّأي العام فقام بكلّ التّحويرات الضروريّة من حذف للمناظرات أو التخفيف من سطوتها والارتقاء الآلي وغير ذلك لجعل النّجاح والحصول على " الشّهادة العلميّة " أمرا متاحا للجميع مضحّيا بالمستوى العلمي صانعا بذلك جيشا احتياطيّا من العاطلين عن العمل من خرّيجي الجامعات الذّين كانوا في مقدّمة من انفجروا ضدّه زمن الثّورة عليه.
لقد صنع بنفسه هاويته حين حوّل التّعليم إلى خزّان ألغام مؤجّلة قابلة للانفجار في كلّ أوقات الأزمات. هذه الذوات " الملغّمة " التي نجمت عن تعليم لم يفكّر عميقا في الإنسان وفي بناء العقل النّقدي وفي زرع شجرة القيم الوارفة وفي آفاق التشغيل بفدر ما فكّر في أسر الإنسان داخل زنزانة التحزّب الضيّقة وزنزانة الأنانيّة وزنزانة النّفعيّة والذّرائعيّة، حوّلت الأرضيّة الاجتماعيّة إلى أرضيّة ملغّمة مهيّأة لكلّ الاحتمالات ولكلّ أشكال التطرّف ولظواهر الانتحار والهجرة وغيرها، ووضعت الدّولة المشغولة بذاتها أمام مأزق حقيقيّ. . إنّها تمثّل أجيالا بأكملها هدفها افتكاك موقع لها من أجل الحياة في واقع مأزوم اقتصاديّا واجنماعيا يعجز عن رسم أفق واسع لها، أو الانفجار تحت أقدام " الواقفين من أجل تونس " عليها..
لا تزال الهاوية مفتوحة لابتلاع من تريد. فبعد الثّورة ورغم بعض المحاولات لفتح ملفّ التّعليم ومعالجة الأدواء فيه إلّا أنّ تمكّن المنظومة القديمة والثقافة القديمة والمصالح القديمة والعقليات والعلاقات القديمة من الجهاز الإداري المسيّر رغم بعض التغييرات، وسياسة " التّوافق " التي سعت إلى أن يكون الإصلاح أيضا " توافقيّا " تشاركيّا " دون أن يكون فعلا كذلك، وحسابات النّقابات المربكة، جعل الإصلاح عسيرا والنّبش في المسكوت عنه مستعصيا، كما جعل الخوض في المعضلات الحقيقية كمواجهة الفساد وتهيئة الفضاءات التي تليق بالإنسان والبرامج وطرق التدريس والزمن المدرسي بطيئا ومرتجلا ومؤجّلا في كثير من الأحيان.
وتزداد الهاوية اتّساعا حين يصبح التّعليم الذّي لم يتحرّر من تدخّل السياسة السّافر رهين إرادات خارجيّة وخاضعا لنوستالجيا فرنسية لاتزال تعتبر تونس إحدى مستعمراتها القديمة. ويصبح إرضاء فرنسا أولويّة قبل إرضاء التلاميذ والأولياء الذّين تصيبهم إثر كلّ قرار مرتجل " بهتة " تتحوّل إلى خيبة أمل وإلى خوف على مصير أبنائهم الذّين يقفون على حافة التعليم العمومي المتداعي فزعين.
ولعلّ ركوب جواد التّعليم لخدمة " السّياسة " مرّة أخرى أغرق التّعليم في مأزق جديد وجعل الهاوية تفتح فمها لابتلاع الآمال وسرقة أحلام التّلاميذ وعقولهم الصّغيرة. وفي المقابل ابتلاع أمال البعض أيضا في أن يكون التعليم سرجهم لتحقيق طموحات سياسيّة أو نقابية، وجعلت الحلول ترقيعيّة والتخبّط واضحا في وضع " البديل " وفي إقامة نموذج تعليميّ ناجح قادر على الاستجابة لانتظارات ملحّة لدى التّلاميذ والمدرسين والأولياء.
حصان التعليم الجامح يسقط كلّ من يركبه. فالتّعليم ليس جوادا سهلا. إنّه فرس متنطّع عنيد وحرّ يحتاج طريقا ويحتاج رؤية واضحة ويحتاج فارسا تمرّس بالآفات يعي متى يرخي له العنان ليسهل سيره وتقدّمه.
هو التّعليم فرس حرون يرفض الانقياد لأحكام السياسة ونزوات أصحابها وخلافاتهم وهو في حرونه قد يشقّ الخلاء حاملا معه الآمال الواهمة لأجيال لا تفهم جيّدا ما يحدث ولا تملك ما يكفي من اليقظة العقلية والوعي الذّي يسمح بإصدار الأحكام فتخبط بدورها على غير هدى ولا تعلم ما تبتغي فتقع في الغوغاء والفوضى والعدميّة.
هل مازال بالإمكان أن نحلم بتعليم عمومي لا يسرق الفرح الواعد من قلوب الصّغار ولا يسرق الأمال العريضة في أبنائهم من قلوب الكبار ولا يحوّل التلاميذ إلى كائنات غريبة وسط فضاءات يعتبرونها سجونا كبيرة يأتون إليها كلّ يوم مكرهين لا أبطالا ودون شعور بالمتعة؟
وهل يمكن للمهتمين بشؤون التعليم أن يتجازوا صراعات الأفراد حول الكراسي، فالأفراد عابرون في كلام عابر، للبحث عن مشروع وطني مشترك يجعل التّعليم قضيّة وطنيّة وخيارا استراتيجيا تراهن عليه الدّولة لأنّ المراهنة على التّعليم رهان على الإنسان القادر وحده على تغيير الواقع وإعادة إنتاجه؟
في انتظار ذلك، ستظلّ زهور كثيرة تنبت من شقوق التّعليم وركامه، وسيظلّ بعض التّلاميذ أبطالا وهم الذين تفوّقوا ونجوا من السّقوط بأن أجادوا القفز بالزّانة على كثبان الرّمال المتحرّكة من تحتهم.. وسيظلّ بعض المربين أيضا وهم يدرّسون في أوضاع مستحيلة أشبه بأبطال التراجيديا الاغريقيّة.. ينتهي الأمر ببعضهم بالموت فجأة داخل القسم.. بعد أن عجز القلب عن التحمل..
وتلك معجزة التّعليم العمومي ومأساته..