في حكم بات ونهائي ، أقرت محكمة التعقيب الأربعاء 18 دسيمبر 2024 . الحكم الصادر عن محكمة استئناف في باريس، يوم الأربعاء 17 ماي 2023، على رئيس الدولة الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، بالسجن ثلاث سنوات، واحدة منها مع النفاذ بعد إدانته بالفساد واستغلال النفوذ، في خطوة غير مسبوقة لرئيس فرنسي سابق.
كما أدانت معه محاميا وقاضيا في أعلي المراتب القضائية ( محكمة التعقيب) وقالت إن الرئيس الأسبق سيرتدي سوارا إلكترونيا بدلا من دخول السجن في السنة الثالثة.
وصدر حكمان مماثلان على المحامي تياري هرتسوغ Thierry Herzog, وعلى كبير القضاة السابق جيلبرت أزيبير. Gilbert Azibert
وأصدرت المحكمة أيضا حكمين بحرمان ساركوزي لثلاث سنوات من حقوقه المدنية مما يجعله غير مؤهل لأي انتخابات، ومنع هرتسوغ من ممارسة عمله ثلاث سنوات.
في الحكم
أدين ساركوزي، لمحاولته الحصول بشكل غير قانوني على معلومات من قاض بمحكمة التعقيب في عام 2014 حول دعوى قانونية رفعت ضده وتتعلق بشبهات حول حصول ساركوزي على أموال من الرئيس السابق معمر القذافي لتمويل حملته الانتخابية في 2007.
وقالت المحكمة إن الوقائع « خطيرة بشكل خاص »، بالنظر إلى أنها ارتكبت من قبل رئيس سابق، استخدم منصبه لمساعدة قاض في الحصول على وظيفة مرموقة في إمارة موناكو، بعد أن يسدي له خدمة تصب في مصلحته الشخصية.
وأدين إلى جانب ساركوزي كل من محاميه وصديقه القديم تييري هرتزوغ Thierry Herzog, والقاضي جيلبرت أزيبرتGilbert Azibert ، وحُكم عليهما بنفس العقوبة، بتهمة عقدهم «وفاق فساد».
في الوقائع
في عام 2014 ، بدأ القضاة التحقيق في شبهة «الحصول على أموال بشكل غير قانوني لتمويل الحملة الرئاسية » في صلة بالرئيس السابق معمر القذافي عام 2007، وخلال التحقيق اكتشفوا صدفة أن ساركوزي وهرتزوغ كانا يتواصلان عبر هواتف محمولة سرية مسجلة باسم مستعار.
ومن خلال المحادثات التي تم التنصت عليها، اشتبه المدعون العامون في أن ساركوزي وهرتزوغ قد وعدا أزيبرت بوظيفة في منصب عال مقابل تسريب معلومات حول القضية.
وبحسب المحكمة، قال ساركرزي في إحدى هذه المكالمات الهاتفية مع هرتزرغ عن القاضي المتورط ازبيرت «سأساعده.. سأجعله يتقدم » …
ورغم أن القاضي لم يحصل على الوظيفة، توصل المدعون إلى أن « الوعد المعلن بوضوح » يشكل في حد ذاته جريمة فساد بموجب القانون الفرنسي، حتى لو لم يتم الوفاء بالوعد.
ونفى ساركوزي بشدة وجود أي نية خبيثة، وقال للمحكمة إن حياته السياسية تدور حول « تقديم القليل من المساعدة للناس »، هذا كل ما في الأمر، مؤكداً أنه كان على بعد 100 مليار ميل من التفكير في أنه يفعل شيئا ليس لديه الحق في القيام به.
وشدد ساركوزي على أنه لم يحصل على معلومات سرية من أزيبرت، في حين قال المدعون أن ساركوزي علم بأنه يتم التنصت على الهواتف السرية، وهذا ما منعه من مساعدة أزبيرت في الحصول على الوظيفة.
هذه هي الوقائع كما روتها الصحافة الفرنسية وهذه بعض من لائحة الاتهام ماذا نستخلص منها ؟
كيف نحارب الفساد ؟
يتضح من الاتهام ومن حكم المحكمة وما أوردته الصحافة الفرنسية التي خصصت حيزا كبيرا من مساحتها ومن اهتمامها لمتابعة أطوار المحاكمة سواء في طورها الابتدائي او الاستئنافي او التعقيبي غير المسبوقة في الجمهورية الخامسة ( حوكم شيراك بتهمة الفساد ولكن لم يطبق عليه الحكم لاعتبارات ترتبط بصحة المتهم ) أن المحكمة الفرنسية أكدت في حكمها على أن الجرائم المرتكبة من الأطراف الثلاثة شكلت وفاق فساد Un pacte de corruption
ولا شك أن هذا الوفاق يمس مساسا فادحا بالثقة العامة في القضاء ويشيع الفكرة بأن الإجراءات لدى محكمة التعقيب لا يحكمها مبدأ المواجهة أمام قضاة مستقلين بل إن تلك الإجراءات يمكن أن تكون موضوع اتفاقات وتسويات سرية الغرض منها خدمة مصالح شخصية …
هذا بشكل عام اما بشكل تفصيلي فقد ادانت المحكمة ساركوزي لأنه بصفته رئيس الجمهورية هو الضامن في استقلال القضاء ولأنه اخل إخلالا فادحا بذلك الواجب واستعمل موقعه في ارشاء قاض من خلال وعده بمنصب رفيع في الدولة مقابل التدخل لفائدته في القضية التي ينظر فيها القضاء حاليا والمتعلقة بالحملة الانتخابية سنة 2007. كما أقرت المحكمة في حكمها إدانة المحامي من أجل الفساد النشيط corruption active وحكمت عليه بثلاث سنوات سجنا مع تأجيل التنفيذ لسنتين فهو بالنسبة إليها قد وضع نفسه خارج مجال ممارسة حق الدفاع وهكذا فان صلته الشخصية بالرئيس السابق قد أضعفت ملكة التمييز والإدراك لديه وذلك بعدم محافظته على المسافة المهنية المستوجبة بينه وبين موكله آيا كانت صفة هذا الموكل
وقد ادانت المحكمة القاضي أيضا من اجل الفساد السلبي corruption passive وهتك السر المهني وسلطت عليه عقوبة السجن لمدة ثلاثة سنوات مع تأجيل التنفيذ بالنسبة الى سنتين إذ انه وبحسب المحكمة لم يخرق فقط الواجبات القضائية المهنية بإصرار وتعمد بل خان ثقة زملائه فيما هم مؤتمنون عليه من أسرار المفاوضات والملفات فأشاع بعضا من هذه الأسرار .
يستخلص من ذلك انه في الدولة الديمقراطية ليست الثقة المطلقة في المؤسسات السبيل لتحقيق نزهاتها وعدم التباسها بأخطر ممارسات الفساد كما أن الاطمئنان الأعمى إلى خدمتها للصالح العام قد يقود إلى عدم التفطن إلى فسادها.
إن الرقابة المؤسسية والمجتمعية المستمرة والردع العام هما اللذان يحققان تطبيق القضاء لمقتضيات القانون الجنائي على الكافة بكامل الصرامة مهما علت مواقعهم او سفلت بل وأساسا على من علت مواقعهم من الذين يصعب تتبعهم لتحصنهم بمواقع السلطة والنفوذ المالي. إن تطبيق أحكام المجلة الجزائية بأشد ما يمكن من الصرامة وبتسليط أقسى العقوبات على الجناة دون أي ظروف تخفيف هو الكفيل بالحد من العواقب الوخيمة التي يمثلها الفساد الذي يتحالف فيه السياسي الفاسد مع القاضي المجرم المرتشي على النماء الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي والسياسي ..
أخيرا إن محاربة الفساد ليست من مهام رجال السياسية فهم عادة لا يستعملون شعار « محاربة الفساد » إلا لمحاربة أعدائهم وخصومهم فهؤلاء مدانون عندهم حتى تثبت براءتهم …أما أصدقاؤهم وحلفاؤهم فهم أبرياء حتى تثبت إدانتهم وهي إدانة قد لا تأتي أبدا لتدخلهم في سير المحاكمات وتأثيرهم على الأحكام الصادرة ضد الجناة خاصة في البلدان التي لا وجود فيها لسلطة قضائية مستقلة عن إرادة السلطة التنفيذية المهيمنة.
إن محاربة الفساد هي المهمة الموكولة أساسا للهيئات العامة للوقاية من الفساد ومنظمات المجتمع المدني المتخصصة في الدفاع عن مبادئ الشفافية والنزاهة والصحافة الحرة وخاصة الاستقصائية منها ولكنها المهمة الموكولة أساسا للقضاء النزيه المستقل و الناجز حيث تستقل النيابة والتحقيق والهيئات الحكمية عن صوت وزير العدل ومن ورائه صوت الحكومة همسا وجهرا.