هو ملتزم باحترام الدّستور ، وهو صادق في ذلك ، ولا خيار له إلّا أن يصدق في ذلك ... لكنّه غير مقتنع بمخرجات الدّستور خاصّة في ما يتعلّق بمنظومة الحكم، وقد عبّر عن ذلك في سياقات متعدّدة منذ مداولات التّأسيسي وبعد المصادقة على الدّستور …
لكنّه كذلك لم يُقِم حملته الانتخابيّة المعلنة على الدّعوة إلى تعديل الدّستور وتغيير منظومة الحكم ... ربّما عبّر عن ذلك في الحملة التّفسيريّة المباشرة لأنصاره وتنسيقيّاته ... وإلى اليوم لم يعلن عن ذلك مباشرة وبشكل صريح في خطابه المباشر للتّونسيين ... هو وضعيّة التباس حادّ بين وجوب احترام وحماية منظومة لا يؤمن بها ويريد إسقاطها .
الحلّ المفترض هو الشّفافيّة من خلال الدّعوة الصّريحة لتغيير المنظومة أو احترام الإرادة العامّة التي وقع تجسيدها في الدّستور …
لكن السّياقات السّياسيّة اقتضت خيارات من نوع آخر تقوم على استراتيجيا تغيير الواقع لا النصّ وبذلك يُعَاد تشكيل منظومة الحكم دون الحاجة إلى تعديل الدّستور ... عمليّة اختصار في الوقت والجهد والكلفة السياسيّة.
كان سقوط حكومة الجملي مَنْفَذ الرّئيس لتغيير المنظومة واقعا دون الاعتداء على الدّستور، حيث أوكلت له المبادرة لتعيين الأقدر الأوّل كما ينصّ على ذلك الدّستور . نقطة تحوّل مفصليّ تحتاج دراسة عن سياقات تشكّل الحكومة المسقطة وخلفيّات إسقاطها ... وهل تندرج ضمن خطّة ممنهجة لإعادة تشكيل المشهد وتوزيع السّلطة التنفيذيّة ...
وكان إسقاط حكومة الفخفاخ بمثابة قطع الطّريق على هذا التوجّه الذي بدأ يتوضّح من خلال تكريس حكومة الرّئيس التي وقع الدّعوة إليها منذ بداية مفاوضات تشكيل أوّل حكومة بعد الانتخابات ... ثمّ كان اختيار الأقدر الثّاني لتكون مناسبة أخرى لتجاوز تلك الصّلاحية الدّستوريّة ليوسّع الرّئيس من دائرة نفوذه من خلال اختيار تركيبة الحكومة نفسها في انتهاك صارخ لصلاحيّات الأقدر ...
لذلك كان التّحوير المحدث على تركيبة الحكومة من طرف الأقدر الذي اختاره بمثابة إرباك لخطّة " تعديل الواقع مع الإبقاء على النصّ " أو " التّغيير من الأسفل في اتّجاه الفوق " ... وفي تقديرنا يندرج رفض الرّئيس أداء وزراء التّحوير لليمين في هذا السّياق وليست قصّة الفساد إلّا تعلّة للتّغطية على صراع النّفوذ والمغالبة لتحويل وجهة المنظومة على غير ما يقتضي الدّستور …
أستغرب من السياسيين والنّخب الذين يتّهمون رئيس الحكومة بنقض العهد والخيانة وعدم الوفاء لوليّ النّعمة الذي أتى به ووضعه في موقع لم يكن يحلم به ... يعني هؤلاء مقتنعون بحقّ رئيس الدّولة في انتهاك الدّستور وتوسيع صلاحياته على غير ما نصّص عليه الدّستور بدعوى أنّ الأقدر المُنعَم عليه بالمنصب قبل بالمبدأ ولم يعبّر عن تحفّظه منذ البداية عندما فرضت عليه تركيبةٌ كان القصد منها سحب السّلطة من يديه ليكون رئيس وزراء صوريّ …
كما أنّ قبول هؤلاء السياسيين وأحزابهم بالاندراج ضمن رؤية قائمة على عدم جدوى الأحزاب والدّيمقراطيّة التمثيليّة ومخرجاتها ومؤسساتها هو بمثابة الانقلاب على أنفسهم بتحويل أحزابهم إلى أحزاب وظيفيّة لخدمة مشروع مضادّ للحياة الحزبيّة في أشبه ما يكون بالملهاة السياسيّة …
منطق أخرق لسياسيين فشلوا في خلق تحالفات طبيعيّة وكتلة تاريخيّة مع فرقائهم فوضعوا كلّ بيضهم في سلّة من يريد فرض أمر واقع هو بمثابة الانقلاب النّاعم على منظومة وقع إقرارها في الدّستور والمصادقة عليها بالأغلبيّة المطلقة من طرف المؤسسين بعد مداولات وتوافقات مضنية .
ماذا يريد الرّئيس وحزامه من وراء كلّ ذلك ؟ حقيقة نريد أن نعرف ماذا يريد الرّئيس من منطوق خطابه الصّريح مباشرة أصالة عن نفسه بعيدا عن الإنشائيّات والاستعارات والمخاتلة وعنعنات النّاطقين باسمه نيابة عنه …
نريد أن نعرف ماذا يريد لنحدّد ماذا يمكن أن نفعل …