بعد سرديّة التّدابير الاستثنائيّة وأساطيرها التي سوّغت للانقلاب المُدَسْتَر تأويلا متعسّفا ... وبعد تجميد المؤسّسة التّشريعيّة والاستحواذ على صلاحياتها و الانفراد بكامل الصّلاحيات التنفيذيّة شهدت هذه المرحلة الاستثنائيّة تحرّشا بباقي السّلط والمؤسّسات : القضاء / هيئة مكافحة الفساد / الهيأة العليا للانتخابات / وأخيرا جاء الدّور على الجماعات المحليّة بحذف الوزارة المعنيّة بالتنسيق معها واستهدافها والتّحريض عليها باختلاق مغالطات تضلّل النّاس وتوغر صدورهم على المجالس البلديّة التي انتخبوها ... فضلا عن الأحزاب التي انتفى دورها وأحيلت على العطالة السياسيّة …
فلسفة الانقلاب النّاعم الذي يحتكر سلطة القرار بأوامر غير قابلة للطّعن تقوم على سحب البساط من تحت المنظومة الدّستوريّة التي أنشأتها الثّورة وإفقادها كلّ شرعيّة ومشروعيّة وقدرة على المقاومة وشلّها وتركها حتّى تتحلّل وتذوب من تلقاء نفسها ... وملء مكانها تدريجيّا بمقتضى الأمر الواقع ومن خلال ما يقع الإعداد له من تصوّر جديد تعكف عليه لجنة منصّبة ... ليعرض على استفتاء غير شرعيّ …
ربّما يكون نسق تشكيل المنظومة الجديدة على الأرض أسرع من الوثيقة المنتظرة وربّما يكون متزامنا معها ... في كلّ الأحوال هذا انقلاب يطبّق حرفيّا ما ورد في المذكّرة الاستراتيجيّة لأحد منظّري القاعدة والذي يعتبر تنزيلا عمليّا لكتاب إدارة التوحّش تحت عنوان " تفكيك الدّولة وتركيب الخلافة " والمقصود تفكيك النّظام الطّاغوتي القائم وتركيب نظام جديد يحقّق رؤيتهم الطّوباويّة ... الفرق الوحيد أنّ صواريخهم ناريّة وصواريخه " دستوريّة وقانونيّة " لكنّ قصد التّفجير واحد : تفكيك الموجود وتركيب المنشود، عمليّة تستغرق مرحلة زمنيّة خاصّة تسبق استقرار الأمر للمنظومة الجديدة تسمّى عندهم إدارة التوحّش وعنده إدارة الاستثناء ...
هي إدارة قهريّة في كلا الحالتين تستمدّ شرعيّتها من التّأويلات المتعسّفة للنّصوص ومن شيطنة الوضع القائم والتّبشير بالغد المشرق باستعمال خطاب يتقاطع من حيث معجمه اللفظيّ ومدلوله ونبرته المتشنّجة وإحالاته الدّينيّة ...
تفكيك للدّولة وأعادة تركيب لها بشكل جذريّ عميق دون المرور عبر حوار مجتمعيّ يبني المشتركات ودون تفويض شعبي حقيقي يعبّر عن الإرادة العامّة ولا يدغدغ مشاعر الغضب والاحتقان ويؤلّب المواطنين على بعضهم البعض …
مغامرة قد تكون على عكس ما يتصوّر المستبشرون هديّة للوبيّات الفساد ومتنفّذي المنظومة القديمة وأصحاب الارتباطات الخارجيّة تمكّنهم من إعادة الانتشار والتّشكّل وتغيير هويّاتهم، ولكن قطعا لن تبني دولة العدل والحقوق والحريّات …