الآن بعد مسافة عقل بارد من جلستي البرلمان أمس أطرح تساؤلات المواطن البسيط: رغم اقتناعي بأنّ ما أتاه رئيس البرلمان مخالفة للبروتوكول وفي الحدّ الأدنى لا يعبّر عن إرادة ومزاج جميع النوّاب الذين يترأّس البرلمان باسمهم وإن كان في تقديري موقفا سليما ومطلوبا سياسيّا وله ما بعده ... ورغم تثمين خيار نقد أداء رئيس المجلس وتبليغ تحفظات النوّاب وجها لوجه ...
رغم كلّ ذلك فإنّني أتساءل أين الرّجولة والمروءة والشّجاعة في استغلال منبر من منابر الشرعيّة الذي أهدته الثورة والدّيمقراطيّة لهؤلاء النوّاب لتوجيه ذلك الكمّ من العنف والأحقاد والسبّ والشّتم والمغالطات والاتّهامات والشّحن والتّحريض والتّهديد والوعيد لرجل مهما كان الاختلاف معه ...
ما كان شعورهم وهم مجتمعون على رجل يجلس قبالتهم يقصفونه قصفا ويسلخونه سلخا ويسحلونه سحلا ويتلذّذون بذلك ويطلقون الضّحكات والقهقهات والتّغامز ونظرات التشفّي بكلّ شعور ساديّ كانيباليّ كمن يتلذّذ برائحة شواء بشري فوق الجمر؟
ليس لديّ عاطفة شخصيّة أو أيّة حميميّة أو حميّة تجاه أيّ سياسيّ وهو يمارس دوره السياسيّ ... بل أعتبر أنّ واجب المثقّف ودوره الطبيعي أن يكون دائما وأبدا في صفّ مقابل للسياسيّ ، لكن مشهد ذلك الرّجل الذي نصبت له محكمة تفتيش سياسي بعد ملاحقة ومحاصرة أشبه بصيد البشر chasse à l’homme وهو يستمع طيلة ليلة كاملة لذلك الكمّ المهول من القصف والتّنفيس العنيف عن كلّ مكبوتات الأيديولوجيا والسياسة والتاريخ والجغرافيا والثّقافة ومشاعر الحقد ... أحيانا ينتابك شعور وأن تستمع إلى ملفوظ العنف لو كان لأحدهم فسحة من التحلّل من ضوابط القانون لانقضّ عليه وأجهز على حياته …
هو مشهد مهيب يحتاج مفردات أخرى لتحليله قد تنزلق إلى حميميّة لا نريد الانجرار إليها ... كانت خطّة الردّ بسيطة غاب فيها الحجاج واللجاج وهي ربّما مقصودة لامتصاص التوتّر والاحتقان وحفظ ماء الوجه ، لكنّه كان ردّا من جنس آخر وثقافة أخرى ومن براديغم آخر في السياسة وأخلاق السياسة والمحاورة …
لم تكن ليلة فرز سياسي فقط بل كذلك ليلة فرز إيتيقيّ ... امتدّت لما بعد الفجر وتحتاج جيشا من المتخصّصين في تحليل الخطاب من مداخل اللسانيات العرفانيّة والانطروبولوجيّا السياسيّة والتّحليل النفسيّ وربّما الباتولوجيّ لاستبعاب واقع الطّبقة السياسية ومعايير الفرز السياسي في البلد …