عاد إلى منزله بعد زحمة المحطّة واكتظاظ الحافلة، أسرع الخطى وهو يقاوم الرّغبة العارمة لحكّ أنفه وعينيه ، دلف بسرعة الملهوف إلى غرفة الاستحمام ، فتح الحنفيّة وأسلم يديه ، كان الماء دافئا منعشا، بحث عن الصّابون فلم يجد له أثرًا ، نظر يمنة ويسرةً، بحث في المطبخ ، لكن دون جدوى، أين كلّ قطع الصّابون التي اشتراها تحسّبا للفيروس الخبيث، أصيب بالدّوار وهو يمدّ راحتيه للأعلى دون أن يجرأ على إطفاء الهرش في وجهه ، كم صافح اليوم من شخص بليد أخرق لم يفهم إعراضه عن المصافحة وهجم عليه قائلا : الموت بيد الله لن نموت ناقصي أعمار .
تجوّل بين الغرف غرفة غرفة ،
دخل غرفة النّوم فوقعت عيناه على " كنسترو" الجهاز " ، عشر سنوات وهو على حاله بغطائه الشفّاف الرّقيق وشرائطه الملوّنة، وبداخله صندوق أنيق به قطع صابون مارسيليّ فاخر مختلفة الأشكال والألوان، قلوب نجوم ورود ... عشر قطع تنقصها قطعة واحدة تبرّعت بها زوجته السّنة الفارطة في غُسل والدها المتوفّى.
تردّد قبل أن يمدّ يده لقطعة الصّابون، يعلم أنّ زوجته يعزّ عليها أن تفقد أيّ قطعة من هذه المجموعة التي حافظت عليها طيلة هذه السّنوات رغم كلّ عمليّات الانتقال من منزل إلى آخر، قرّر أخيرا دون تفكير أن يأخذ صابونة القلب، وضعها بين راحتيه ومرّر عليها الماء الدّافئ ودلك يديه وفرك بين أصابعه وتركيبة العطر المارسيليّ الجذّاب تفوح من رغوة الصّابون، غسل مرّة واثنتين وثلاثة ومرّر راحتيه على وجهه وأحسّ بانتعاش كبير ... ثمّ ترك قطعة الصّابون برغوتها بجانب الحوض.
عادت زوجته، انتبهت لرائحة غير معتادة في البيت، دخلت غرفة النّوم ورأت سلّة الصّابون وقدّ حُلّت شرائطها، تثبّتت من عدد قطع الصّابون ثمّ خرجت والشّرر يتطاير من عينيها، وقعت عيناها عليه وهو يتمدّد على الأريكة، ثمّ هجمت عليه بالأسئلة: أنت من أخذ قطعة الصّابون التي احتفظت بها طيلة هذه السّنوات؟ ألم تر سلّة الصّابون ومواد التنظيف في السّطل وسط المغطس؟ ألا تعلم أنّني أضعها في نفس المكان كلّما قمت بتنظيف البيت؟ ثمّ ألم تختر إلّا صابونة القلب؟
فاجأته نبرة الأسئلة، حاول أن يفسّر لها أنّه كان مشلول التّفكير تحت وطأة الفيروس وتوصيات أهل الصحّة المنتشرة في الفقرات الإعلانيّة بكلّ مكان، لكنّها لم تقتنع أمام وفرة الصّابون في البيت،
نظر إليها وسألها: أليس اسمه صابون؟ وسواء كان هديّة جهازك أم اشتريناه من المغازة أو العطّار فهو صابون، وظيفته أن ينظّف الأوساخ،
نظرت إليه حانقة أنت لا تقدّر الأشياء والذكريات، ثمّ ذهبت لغرفتها وأتت بالصّندوق ونصبته أمامه بتوتّر : وقالت بنبرة حادّة : استعملها كلّها ، لن أحتفظ بها بعد اليوم !
نظر إلى قطع الصّابون وقد انتشر عطرها، ثمّ نظر إليها بحزن عميق: أين القطعة العاشرة؟ لمن كنت تدّخرين التّاسعة؟