عندما كنت في مقتبل العمر كنت أسمع الكبار والصّغار وهم يتسابّون ويعيّرون بعضهم البعض بأوصاف لم أكن أفقه مدلولها من قبيل "يا يهودي يا قبطي يا كردي يا عربي يا جبري ... " وفي مرحلة النّضج اكتشفت أنّه سُباب عنصريّ لا علاقة له بمضمون الوصف ولكن يكشف مخزون الثقافة العنصريّة الثاوية والمترسّخة في الضّمير الجمعي.
في الجامعة اكتشفت مسبّة أخرى ذات مضمون سياسيّ لكنها تحوّلت من مجرّد موقف نقدي من تيّار سياسيّ إلى موقف عنصري من ظاهرة مجتمعيّة. فكيف تحوّل الانتماء إلى تيَار سياسي عابر للحدود إلى سبّة وموقف عنصريّ وتهمة تستوجب التجريم وتقتضي التبرّأ منها والاجتهاد في نفيها عمّن وجّهت له؟
لماذا لم يتحوّل الانتماء لتيّارات سياسيّة أخرى إلى سبّة وموقف عنصريّ رغم الاشتراك في صفة عبور الحدود إقليميّا ودوليّا وتبنّي سرديّات كبرى فوق قطريّة؟ ما الذي في هذا التيّار من خصائص تجعله محلّ ترذيل وشيطنة واغتيال رمزي للمنتسبين إليه والتحريض عليهم واستحلال دمائهم وأمنهم وحريتهم وحقهم في الفعل السياسي؟
الدّارس المتبصّر لن يكتشف داخل هذا التيّار ما يميّزه عن غيره فجميع التيّارات السياسيّة بيسارها الماركسي وتفريعاته وقوميّها بانقساماته وليبيراليّها بنخبه المتعدَدة جميعها كان لها أحلام الحكم وعرفت انحرافات وانكسارات وتشوّهات وارتكبت ما يجعلها مثار إدانة سواء كانت في الحكم أو المعارضة.
فلماذا تخصيص هذا التيّار بموقف ترذيل عنصريّ تصاعد في الفترة الأخيرة؟
من نعم الله عليّ أنّني ابن الجامعة التّونسيّة الحديثة وابن قسم اللغة والآداب والحضارة العربيّة وتحديدا من الذين درسوا بدار المعلمين العليا بسوسة حيث كانت دروس الحضارة الحديثة تتناول تيَرات الفكر الحديث منذ عصر النهضة العربية وطيلة القرن التّاسع عشر، درسنا التيار الماركسي والقومي والإسلامي والليبيرالي من خلال أعلامه وأدبياته والسياقات التي خفت بنشأتها ، أساتذة أفاضل نشطوا هذه الدّروس وفتحوا باب النقاش في العروض وشروح النصّ ، هذا وفّر حدّا من المناعة ضدّ تضخّم الأدلجة في ذلك الوقت وخفف من غلواء الأحقاد ووفّر حدّا من الوعي النقدي بتفاوت بين المتلقّين لهذه الدّروس .
درسنا الحركة الإسلاميّة في باكستان وحركة الإخوان المسلمين في مصر منذ نشأتها ولم يكن هناك ما يشي بما يدعو لموقف عنصريّ تجاه الإخوان، فليس في تاريخها جرائم ضدّ بلد النّشأة تشينها وتجعلها محلّ ترذيل واستقذار ، وليس في فكرها المحافظ القابل للنقد ما يدفع نحو البغضاء والعنف وتقسيم المجتمع واستهداف السلم الأهلي، حتّى النزعات العنفية التي خرجت عن الجسم الأمّ لم تنشأ في رحمه بل في سياقات خاصّة اتّسمت بشدّة التضييق والتعذيب والانتهاكات في السّجون والمعتقلات والملاحقات الأمنيّة " سيّد قطب نموذجا " بل إنّ غالب تاريخ هذا التيّار بكلّ امتداداته القطريّة غلب عليه الطّابع السلمي رغم حلم التغيير الشامل لأنظمة الحكم ومحاولات عابرة ومغامرة للمراهنة على العصيان المدني وعسكرة عدد من التحرّكات وبلغ هذا التوجّه أوجه مع الانقلاب العسكري للجبهة في السّودان .
في كلّ الأحوال كلّ التيارات السياسيّة العريقة مارست الانقلابات وعسكرت الحياة السياسيّة على امتداد الوطن العربي، فلماذا هذا الاستهداف الحصريّ للإخوان؟
الجواب عن ذلك في تقديري يحتاج متابعة محايدة لموقع الإخوان في مجتمعاتهم وموقعهم من أنظمة الحكم حيث بقي الإخوان منذ نشأتهم إلى اليوم ورغم كلّ ما واجههم من مصائب ومحن وتجارب فاشلة وانكسارات ظاهرةً حيّة تستمدّ شروط وجودها من معطيات موضوعيّة وذاتيّة يتداخل فيها السياسي والدّيني والوجداني ، وبقيت حركتهم العقبة الكأداء أمام نجاح العديد من تجارب الحكم في بسط نفوذها على الشّعب، بل بقي هذا التيّار ينغّص على الحكّام زهو انفرادهم بالحكم فيسلبهم تارة شرعيّتهم الدينيّة وتارة أخرى يذكّرهم بوجوده الذي يتميّز بكثافة الحضور الشّعبي مقابل فقدان الشرعيّة الشعبيّة للحكّام لولا تزوير الصّناديق وحكم الحديد والنّار ، لكن كلّ ذلك لم يمنع الإخوان من المشاركة السياسيّة والانخراط في اللعبة الديمقراطيّة بل والانخراط في تحالفات أو علاقة تهدئة مع الأنظمة الحاكمة.
الخلاصة من كلّ ذلك أنّ سرديّات الترذيل والوصم لا تعكس موقغا نقديّا معرفيا من أداء هذا التيّار بقدر ما تعكس الخوف من اكتساحه السّاحة بفضل عمقه الشعبي الذي تفتقده بقيّة التيّارات رغم تمترسها بالحكم أو مؤسسات الدّولة، شيطنة تحرّكها معارك التَدافع والصّراع على الحكم الذي يصطدم دائما بهذه التيَار ، لذلك تحوّل استشعار الفشل في إلغائه سياسيّا وإفنائه أمنيّا وتدميره اجتماعيّا إلى شكل من التعويض المعنوي من خلال الشّحن الاجتماعي والاغتيال الرّمزيّ لهذا التيّار وأتباعه وكلّ من يمتّ لهم بصلة، بل توسّع ليشمل من لم ينخرط في سرديّة تخوينهم وترذيلهم وعزلهم ودعا إلى نقدهم نقدا موضوعيّا أو دافع عن ضحاياهم .
يتطوّر هذا المكبوت العدائيّ ليصبح موقفا عنصريّا يضاهي الموقف من اليهود والأقباط والأكراد والعرب " اللفظة تحيل على العربان والبدو في مقابل الحضر عند بعض الجهات "
حيث يكفي أن يشيع عنك أحدهم أنّك إخواني في عدد من الدّول العربية حتّى تصبح محلّ استهداف وملاحقة أمنيّة واجتناب من القريب قبل البعيد .
كانت تونس بعيدة عن السياقات المشرقيّة القديمة والجديدة حيث وصل العداء ضدّ الإخوان أوجه مع الانقلاب العسكري ومجزرة رابعة في مصر ... حيث ساوى الاستبداد في تونس بين جميع التيارات السياسيّة في الاستهداف والانتهاكات، لكن وقع سحب تلك السياقات المشرقيّة على واقع الصّراع السياسي المحلّي الذي كان فيه النّاشطون سياسيَا في حجاجهم وخصامهم يسقطون صراعات المشرق على السياق التونسي ويستأنفون معارك وقعت في دول أخرى لم يكن لها من قبل صدى أو حضور ، لذلك استعير معجم الصراعات المشرقيّة مثل إخونجي لتصبح خوانجي ، وتعمّق الاسقاط بعد ثورات الربيع العربي ليتحوّل إلى تيّار معاد للإخوان على امتداد المنطقة العربيّة يستمدّ وجوده وسنده من عوامل متعدّدة :
*الأنظمة التي أصبحت تخشى على وجودها من نجاح التجربة الديمقراطية التّونسيّة التي كان أكبر المستفيدين منها بظنّهم هم الإسلاميّون،
*التيَارات المنافسة التي لم تستطع مجاراة الإسلاميين في حضورهم ومناوراتهم وتجاوزهم للصَدمات وامتصاصهم للأزمات.
*التيّارات الإسلاميّة المعادية للإخوان سواء التي ركبت مركب السّلطة أو التي انخرطت في مشروع التوحش والإرهاب أو التي انخرطت في اصطفافات إقليميّة.
*السياقات الإقليميّة التي جعلت الإخوان في صفّ الثورات وتجارب الانتقال الديمقراطيّ مقابل تيَارات ودول رأت في الدّفع بهذا الخيار إلى أقصاه استهداف لأنظمة حليفة يرونها صمّام أمان لخيار الممانعة.
بقي تيّار الإخوان رغم التّجارب المحليّة المختلفة والانفصال العضوي عن التيّار الأمّ متمسّكا بالخيار الدّيمقراطيّ لا فقط باعتباره أكبر المستفيدين منه انتخابيا ولكن باعتباره ضمانا لعدم العودة لأنظمة الاستبداد التي كانوا أكبر ضحاياها،
ولعلّ من مفارقات السياسة أنّ التيّار الذين كان يعتبر الدّيمقراطيّة كلمة غريبة عن سياقه التراثي أصبح من أكبر المدافعين عنها وعن مخرجاتها مقابل خصومه الذين طالما نظّروا للدّيمقراطيّة وناضلوا من أجلها ولكن انحازوا لخيارات الانقلاب وحكم العسكر والتفويص!
خوانجي أو إخواني عبارة يراد بها التحقير والترذيل والتّخوين والاستهجان والسبّ والاتّهام وإسقاط معارك خارجيّة على سياقنا المحلّي وخدمة أجندات أجنبيّة لتدمير تيّار سياسي وظاهرة اجتماعيّة ذات أبعاد ثقافية وسياسيّة دون القيام بجهد الفهم والنقد المنهجي واستيعاب الظّاهرة.