كان شعار " غدوة خير " معبّرا عن الأمل الذي علّقه المؤمنون بالثّورة على غد تتحقّق فيه انتظاراتهم من الثّورة ومخرجاتها ... شعار خبا وهجه مع الوضع الاستثنائيّ الرّاهن الذي تراجعت معه الكثير من الآمال وحلّ محلّها الخوف على مستقبل البلد ومكاسبه مهما كانت منقوصة ومتعثّرة …
فيلم "غدوة" الذي أخرجه وكتب سيناريو وأنتجه الفنّان التّونسي ظافر عابدين كان له شجاعة استعادة أحد أهمّ مطالب الثّورة في فترة أصبح فيها ذلك المطلب هامشيّا، بل محلّ ترذيل وتسفيه …
قصّة الفيلم بسيطة وبناؤها الدّرامي بسيط كذلك حيث تدور أحداثها حول محام يعيش صدمة خيبة الانتظار في ثورة لم تنصف ضحايا الحقبة الدّكتاتوريّة بعد أن تغيّرت أولويّات الطّبقة الحاكمة من مطلب " الحقيقة العدالة المصالحة " إلى قضايا الأمن والوضع الاجتماعي …
وقد عبّر المشهد الذي يمثّل البؤرة الدّراميّة للفلم عن تلك المعادلة الجديدة حيث يصوّر مشهد المحامي وهو يترصّد الوكيل العام أمام بيته بعد تعقّبه في ردهات المحاكم ليعرض عليه ملفّا يوثّق مظالم المواطنين الذين انتهكت حقوقهم زمن الدّكتاتوريّة ويذكّره بما عبّر عنه من التزامات في هذا الشّأن، لكن الوكيل العامّ من شبّاك سيّارته يعلمه بتغيّر الأولويّات ويدعوه للكفّ عن الجري وراء هذا الملفّ لأنّه أغلق بشكل نهائيّ …
ثمّ يغادر الوكيل العامّ سيّارته ويسلم المحامي لأعوان الأمن المرافقين المكلّفين بحمايته ليمارسوا عليه شتّى أنواع التّعنيف الجسدي على مرأى منه ومسمع ... لكنّ المحامي " حبيب " بقي يلهج طيلة الفيلم بعبارة " حقيقة عدالة مصالحة " في حالة إصرار وعناد رهيب على ضرورة كشف الحقيقة وإنصاف الضّحايا من أجل المصالحة …
اختار المخرج أن يكون المحامي في حالة اضطراب نفسي جرّاء ما تعرّض له داخل السّجون، ولكن خاصّة بسبب ما حدث من انقلاب للمعايير في علاقة بإنصاف ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، اضطراب وصل بالمحامي حدّ الهذيان ممّا يقتضي إقامته في المستشفى للعلاج، وهو ما كان يتهرّب منه طيلة الفيلم خشية أن يقطع عليه سعيه لإقناع الوكيل العامّ بضرورة فتح ملفّ الضّحايا …
وانتهي الفيلم بإيقاف المحامي وهو في طريقه إلى للمستشفى بتهمة التهجّم على الوكيل العام ومداهمته في بيته ليملي عليه ما يجب عليه القيام به ...
كان الفيلم خارقا للسّائد الدّرامي لا فقط بسبب الجرأة في إحياء قضيّة وقع حفظها في أعقاب التّجاذبات السياسيّة، بل كذلك في كسر إحدى الصّور النّمطيّة التي تحفل بها السّنما التّونسيّة حتّى أصبحت أقرب إلى الكليشيات "الستاريوتيب" المكرورة حتّى الفجاجة …
نقصد بذلك صورة الأب المسيطر الفظّ الغليظ المجسّد للسّلطة الأبويّة الباتريياركيّة الذّكوريّة الغاشمة ... بما يضع العلاقة بالأبناء في دائرة الصّراع العبثي لعقدة أوديب التي تقتضي قتل الأب فعليّا أو رمزيّا " الباتريسيد " لتحرير الذّات من سلطته والانعتاق من أسره نحو حياة جديدة حرّة ... يكفي جرد لصورة الأب في مدوّنة تلك الأفلام لتكشف كمّا وكيفا كثافة هذه الصّورة النّمطيّة السلبيّة …
على عكس ذلك كانت علاقة المحامي بابنه التّلميذ أحمد من جنس فنيّ جديد ونمط شخصيات جديد غريب عن الدّراما التّونسيّة، حيث كانت مشحونة بالحميميّة والعاطفة والحنان المتبادل والتّضامن والخوف على بعضهما البعض.
لكن الأكثر تعبيرا وجماليّة وعمقا هو موقع الابن ودوره في هذه العلاقة، حيث أبدى ذلك الطّفل من النّضج العاطفي والبرّ بوالده والحرص علي أمنه وصحّته النفسيّة ما قلب الأدوار بينهما، حيث كان الطّفل هو الأب الفعلي لوالده في حرصه عليه ونصحه له ومراعاته لمشاعره ومراقبته له لحمايته من حالات الاضطراب التي تنتابه، بل وصل به الأمر حدّ إعانته على الاستحمام في مشهد لافت ... لذلك صرّح الأب نفسه لزائرته المتخيّلة في حالة هذيانه : كأنّه هو والدي وأنا ابنه ...
ومع كلّ ذلك لم تكن علاقة الابن بوالده على مستوى الحبكة الدّراميّة مركّبة ولا مصطنعة ولا متكلّفة ولا مسقطة، بل كانت تلقائيّة انسيابيّة مقنعة في غياب الأمّ الطّليقة التي كانت متابعتها للأحداث بكثير من البرود وعدم الاهتمام نتيجة رفض ما كان عليه زوجها السّابق من الالتزام حدّ الهوس بملفّ ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان على حساب استقراره الأسري …
لم تقتصر الوظيفة الدّرامية لشخصية الابن التّلميذ أحمد على مساندة والده وإحاطته بالرّعاية والحبّ والتفهّم والخوف على صحّته وحياته، بل كان الشّخصيّة المحوريّة للغد القادم " غدوة " حيث يضع والده قبل قرار الاستسلام للعلاج النّفسيّ على كاهله ملفّ ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان من خلال تسليمه الوثائق الأصليّة لذلك الملفّ ..
لينغلق الفيلم في نهايته المفتوحة على مشهد الابن الذي يجري وراء سيّارة الشّرطة التي اعتقلت والده ليخاطبه من وراء الأسلاك المشبّكة لنوافذ السيّارة ويطمئنه ويتعهّد أمامه بمواصلة قضيّته وتبنّي ملفّ الضّحايا ... في غد يصبح فيه مؤهّلا لذلك …
وكانت ابتسامة الرّضا التي ارتسمت على وجه الأب رسالة فخر وأمل في جيل جديد ... تلك هي "غدوة" الفيلم التي يحمل فيها جيل جديد ملفّ انتهاكات الحقوق وتركة الاستبداد بعد فشل الجيل القديم في الإيفاء بالتزامات الثّورة ... لنكون رسالة الفيلم الأساسيّة هي أنّ هذه القضيّة العادلة لا يجب أن تموت …
أبعاد فنيّة عديدة في الفلم تحتاج متخصّصين للتّعليق عليها وتقييمها حيث يمكن أن يبدو الفلم ثقيلا بالنّسبة إلى البعض لضمور مساحة السّيناريو لصالح مونولوق ذاتيّ صامت ترافقه موسيقى تصويريّة تجعل المشاهد المندمج مع الخطّة الدّراميّة يصنع سيناريوه الخاصّ ويتخيّله مع حوار العيون بين الطّفل وأبيه ومع كلّ أنفاس المحامي وارتعاشات جسده وخلجات نفسه وقسمات وجهه، وخفقات قلب ابنه الممزّق بين امتحاناته المدرسيّة وخشيته على حياة والده ...
لكن رغم كلّ السياقات النفسيّة المضطربة والصّراعات الباطنيّة والتخوّفات والإحباطات التي اعترت الشّخصيّات كان السيناريو دون ما عودتنا به الدّراما المحليّة من صراخ حادّ وعراك ومشادّات كلاميّة وعنف لفظيّ وجسديّ وتصعيد في الانفعالات الحادّة …
بل رغم كلّ توتّرات السياقات النفسيّة للأب وتوتّرات الابن خوفا على والده لم نشهد موقف عنف لفظيّ أو مادّي بينهما ... فقد كانت العلاقة يسودها حبّ عميق، عميق جدّا، دون انفعالات التّعبير المعتادة ... بما بمكن يدشّن صورة جديدة للعلاقة بين الأب وابنه في العمل الدّرامي التونسي تحرّرها من عقدة أوديب، وتقتل معها صانعها "الأب المخرج" التّقليدي…