الدّكتور سالم لبيض أستاذ علم الاجتماع بالجامعة التّونسيّة والنّائب عن الكتلة القوميّة بالبرلمان التّونسي في حوار له منذ ساعة على قناة خاصّة يصوغ سرديّة طريفة لتعويم أحداث قفصة جانفي 1980 وهي عمليّة مسلّحة قام بها فرقة كومندوس من العناصر القوميّة تدرّبوا في معسكرات تدريب بليبيا تحت إشراف نظام العقيد القذّافي بليبيا ،
وقد قع فيها السّيطرة على مدينة قفصة وتحريض المواطنين على التمرّد ولكن لم يقع الاستجابة لنداءات التمرّد وفشلت العمليّة بمقاومة الجيش لها وانتهت بمقتل عشرات المدنيين والأمنيين ... هي عمليّة من النّاحية الميدانيّة لا تختلف كثيرا عن عمليّة بن قردان التي حاول فيها الدّواعش فرض سيطرتهم على المدينة ...
اعتبر الدّكتور أنّ أحداث قفصة هي الحلقة الثّالثة للصّراع اليوسفي البورقيبي بعد ما سمّي بالفتنة اليوسفيّة زمن الاستقلال والمحاولة الانقلابيّة 1962 التي تزعمها لزهر الشّرايطي، واعتبر أنّ أحداث قفصىة التي تداخل فيها اليوسفي والقومي هي الحلقة الأخيرة من المواجهة بين التيّار " اليوسفي القومي " ونظام الحكم.
هي سرديّة وظيفيّة بقصد التلطيف من انخراط القوميين في خيار العنف المسلّح ضدّ نظام بورقيبة بتنسيق مع نظام القذّافي وقتها ثمّ طلّق القوميّون إثرها العنف المسلّح وانخرطوا في النّضال السّلمي.
لقد وجد الدّكتور ما يفسّر به ويبرّر هذه الحلقة العنيفة من العمل السياسي الذي يستهدف نظام الحكم وهو القمع البورقيبي الذي عدّد أوجهه البشعة التي ألجأت هؤلاء المعارضين إلى حمل السّلاح سواء للانقلاب أو اجتياح مدينة وقيادة تمرّد بتنسيق مع دولة أجنبيّة .
لكنّ الدّكتور المبدع الذي أجاز لنفسه باسم التيّار الذي يمثّله تركيب هذه السرديّة، لم يجد مسوّغا لخصومه لصياغة سرديّتهم التي تفسّر نزوعهم إلى المواجهة العنيفة زمن نظامي بورقيبة وبن علي رغم أنّ ما ينسب إليهم من عنف دون ما وقع في أحداث قفصة والعمليّة الانقلابيّة المسلّحة 1962 من عنف مسلّح، وكذلك رغم أنّ ما تعرّض له خصومه من تنكيل لا يقلّ بشاعة عمّا تعرّض له من جعل من التنكيل بهم مفسّرا أو مبرّرا لنزوعهم العنفيّ ...
فهو يجيز لنفسه ما لا يجيزه لغيره في تناقض صارخ لا يستساغ في مضمار الانسجام المنهجيّ .
لقد عاب كثيرون على تقرير العدالة الانتقاليّة عدم موضوعيّته وعدم حياده في صياغة سرديّة الانتهاكات، بل استشعر بعضهم النّقمة من تقديم خصومهم في صورة ضحايا بينما هم في سرديّة أدلوجتهم ومخيالهم السياسي مجموعات إرهاب وعنف ... وصراعهم مع نظام الحكم هو صراع رجعيّ رجعيّ …
من أهمّ ما خلص إليه تقرير العدالة الانتقاليّة :
أوّلا : أنّ النّظام الدّكتاتوري مارس نفس الانتهاكات الممنهجة مع كلّ المعارضات التّونسيّة بتفاوت بينها في الحجم والامتداد الزّمني والجيلي .
ثانيا : أنّ هذه المعارضات عندما يشتدّ بها التنكيل ويبلغ القمع مداه تنزع إلى العنف أو التّخطيط له وهذا ينطبق على كلّ المعارضات السياسيّة الكبرى ... وقد حوكمت جميعها في محاكم أمن الدّولة بتهم تغيير وجهة الدّولة والتّخطيط لقلب نظام الحكم .
ممّا يلفت الانتباه كذلك في التّقرير ويحتاج تفسيرا أنّ حجم الانتهاكات التي تعرّض لها خصوم الدّكتور واتّساعها زمنيّا وجيليّا ومناطقيّا وفئويّا وعمريّا وبشاعتها شكلا وممارسات ومخلّفات لا يقارن بما قابلها من ردود أفعال من الضّحايا صنّفت ضمن أعمال العنف أو التّخطيط لها ...
أسأل عالم الاجتماع لعلّي أجد عنده جوايا :
هؤلاء الضّحايا الذين تعرّضوا بعشرات الآلاف للمحاكمات والسّجن والتّعذيب والاغتصاب نساء ورجالا وتعرّض ذويهم للقتل وعوقبوا بشكل جماعي على امتداد عقود وحرموا من أبسط حقوقهم الأساسيّة لماذا لم ينخرطوا بشكل جماعيّ في أعمال انتقاميّة ضدّ منظومة الحكم ؟ هل كانوا عاجزين عن حمل السّلاح كما فعل غيرهم ممّن يبرّر لهم الدّكتور ويجد لهم المسوّغات ؟ ولو فعلوا ذلك هل كان يجد لهم نفس المبرّرات التي وجدها لأبناء جلدته الأيديولوجيّة ؟