تبحث عن أليق وأدقّ عبارة تصف بها الرّئيس المتوفّى خارج سياقات التّأبين والعزاء والخطاب الجنائزي التّمجيدي وسفسطة بعض المعلّقين فلا تجد إلا ما يعبّر عن عن مفارقة عجيبة تلخّص سيرته بعد الثّورة :
" هو رجل روّضته الثّورة وروّضها "
روّضته وهو سليل سرديّة دولة الاستقلال بما فيها من مآثر ومفاخر وما فيها من تركة مظالم ، سيرة مزدوجة بين تجربة الدّولة وفلسفة الحكم الفردي للزّعيم الأوحد ، وتجربة محدودة ولكن مهمّة في تأسيس تعبيرة من داخل منظومة الحكم ضاقت ذرعا بالحكم الفردي وخنق الحريات وإجهاض الديمقراطيّة " جريدة الرّأي / الدّيمقراطيين الاشتراكيين " ،
لكن سرعان ما عاد إلى حضيرة الحبيب في مهام جسيمة بالدّولة من داخل المنظومة التي أخذ منها مسافة لوقت قصير ، ثمّ يغيب ويعود بعد الانقلاب النّوفمبريّ على رفيقه ليمارس مهامّ صلب الدّولة من جديد ثم يغيب ليظهر بعد الثّورة تحديدا بعد القصبة 2 ليكون حلقة العبور من المنظومة القديمة إلى منظومة الثّورة ،
أعلن منذ أيّامه الأولى في القصبة أنّه لا يحكم إلا وحده أي بمقتضى ما يمليه عليه عقله وتقديره للأشياء وظنّ أنّ بإمكانه أن يسير في الثّورة بنفس سيرته زمن الحكم البورقيبي ، لكنّه وجد نفسه مسيّجا بضمير الثّورة واستحقاقاتها ومطالبها ونسقها السّريع في إنتاج آليّاتها وهيآتها وقوانينها ،
حاول أن يغالب الثورة وتقمّص دور المنقذ في جبهة كادت تعصف باستقرار البلد ووحدته ودستوره و ديمقراطيّته ، لكن سرعان ما أدرك خطورة اللعبة أمام ما أدركه من حقيقة مفادها أنّ الثّورة أمر واقع لا يمكن تجاوزه أو الرّجوع به إلى الوراء ولكن يمكن ترويض جموحه وافتكاك موقع للمنظومة القديمة في المشهد الجديد لكن من داخل شروط الثّورة وآليّاتها ،
كان التّوافق في الحقيقة والعمق والرّمز بين طرفين أساسيين هما الضحيّة والجلّاد، ذهبا إليه بتفاوت في تقدير حجم دوافعه هل هي الإكراهات والذّرائعيّة أو الوعي الذّاتي بالتوافق كبراديغم في الحياة السياسيّة ، روّضته الثّورة رغم كلّ نداءات الشّحن والتّحريض الدّاخلي والخارجي التي لم يستجب لها لاستشرافه سوء مآلاتها على الجميع.
لكنّه كذلك روّض الثّورة من خلال القدر الذي افتكّه منها لإعادة المنظومة القديمة إلى واجهة المشهد والتطبيع بينها وبين منظومة الثّورة سواء بالمغالبة أو المقايضة أو التوافقات ، كان البلد طيلة الفترة الماضية ورشة للاختبار والتّجريب في كلّ المجالات ، ولم يكن الفاعلون فيها يصدرون عن رؤية بل عن صراع مصالح وتموقعات وإعادة انتشار وتوزيع لمراكز النفوذ والتّوازنات ،
روّض الخصوم والموالين في حدود الهامش الذي وفّره الدّستور من صلاحيات وإمكانات للمناورة والتّأويل ، وكان يتوقّف مذعنا كلّما اصطدم بسقف الثّورة والدّستور والرّأي العام، يغالب ما استطاع إلى ذلك سبيلا ويحاول افتكاك ما يمكن افتكاكه ثمّ سرعان ما يذعن مسلّما بالواقع الجديد ،
ربّما ساعده على الانخراط في دائرة ممارسة الترويض والقابليّة للترويض هو ازدواج الرصيد التاريخي الذي كان يحمله قبل الثّورة بين نمطين من التفكير : نمط يمثّله بورقيبة صاحب سياسة الحزب الواحد، ونمط يمثّله أحمد المستيري أب الدّيمقراطيّة التّونسيّة قبل الثّورة بدون منازع ،
وعى بالثّورة واستحقاقاتها ولكنّه لم يمتلئ بها بالشكل الذي يجعله أحد رموزها ، لذلك بقي يغالب إلى آخر أيّام حياته من أجل التّطبيع بين القديم والجديد ،
لذلك هو في السياسة في عالم البرزخ بين القديم والجديد، بين منظومة التّأسيس الأولى المتلبّسة بالحكم الفردي ومنظومة الثّورة المتطلّعة لحكم الشّعب.
رحمه الله في برزخه الأخروي وللتّاريخ قول في برزخه الدّنيويّ.