صيغ الدّستور التّونسي في ظلّ تدافع حادّ يقوده هاجس الخوف من هيمنة أيّ طرف على المشهد السياسي مستقبلا، ذلك كانت خلفيّة الفصول المتعلّقة بمنظومة الحكم في الدّستور قائمة على فرض توازن عجيب بين رأسي السّلطة التنفيذيّة إلى حدّ التماسّ بينهما،
فبينما دفع المراهنون على الأغلبية البرلمانيّة نحو تقوية صلاحيات الحكومة التي يشكلها الحزب الفائز بالأغلبيّة، دفع المراهنون على الرّئاسة إلى توسيع صلاحيات الرّئيس وتمكينه من مداخل للتّأثير في القرار التنفيذي،
وضع أطراف بيضهم في سلّة الحكومة مقابل أطراف أخرى وضعت بيضها في سلّة الرّئاسة وذلك بحسب تقديرها لأوزانها وتوقّعاتها لتركيبة المشهد السياسي والانتخابي.
كلّ هدا التّحليل يؤكّد أنّ المشهد الرّاهن هو تجسيد حرفيّ لما أراده النوّاب الذين راهنوا على الرّئاسة باعتبارها عنصر توازن أو قلب توازنات، نظام الحكم ليس هجينا كما يتردّد بل هو ثمرة فوبيا التغوّل والاستئصال.
كلّ ما حدث بعد الثّورة صلب منظومة الحكم تمّ بما يرضي الدّستور القديم والجديد، وما أقدم عليه رئيس الدّولة مطابق بشكل حرفيّ للدّستور، حيث لم يصادر الحقّ الدّستوريّ للحزب الأغلبي في تشكيل الحكومة، إثر فشلها أو إفشالها القصدي عادت إليه المبادر فمارس حقّه الدّستوريّ بكلّ ما يسمح به الدّستور خاصّة في ظلّ غياب أو تغييب متعمّد للمحكمة الدّستوريّة التي تؤوّل مواطن الاشتباه الدّلالي،
هي حكومة الرّئيس بكلّ معنى الكلمة طالما أنّ الأحزاب فرّطوا في حقّهم الدّستوري في تشكيل الحكومة التي تخوّل لهم ممارسة الحكم بشكل مباشر وتطوير وعيهم السياسي ومهاراتهم في إدارة الشّأن العامّ،
لكنّهم آثروا العمل من وراء ستار الرّئيس وفريقه الذين جاءتهم الفرصة على طبق من ذهب، لم يغتصبوها ولم ينتهكوا الدّستور لافتكاكها عنوة، بل سلّمها لهم الإخوة الأعداء ولسان حالهم يردّد بيت ابي فراس الحمدانيّ:
إذا متّ ظمآنا فلا نزل القطر
وهو معنى يمكن أن يتناسب مع حال العاشق المحروم من الوصال ولكنّه لا يليق بحياة سياسيّة انحباس القطر فيها يعني إضرار بالمصلحة العامّة للشّعب.
ما الذي ربحه من عفّنوا المشهد السياسي وأضعفوه ورذّلوه وفرّطوا في حقّهم الدّستوري في الحكم ليكونوا تبّعا تحت رحمة الرّئيس وفريق الرّئيس الذي لم يظلمهم ولكن ظلموا أنفسهم؟