كتبت في تدوينة سابقة بشكل فوريّ أثناء عرض الحصّة المسجّلة " كان من الأفضل لو تريّث الأستاذ محمّد عبّو فترة قبل ظهوره الإعلامي " وبعد انتهاء الحصّة تأكّد تسرّعه في الظّهور حيث برز الجانب الذّاتي ومنحى التوتّر والمعياريّة في الخطاب والوثوقيّة والإطلاقيّة في الأحكام، وعدم الانسجام وهو محاط بثلاثيّ لا يمكن الإفضاء أمامه بما يعتمل في النّفس في علاقة بمطمح شريف مثل مكافحة الفساد ... كان الموقف رمزيّا ومعبّرا: من يحاور من؟
بدا تشخيصه للواقع سوداويّا قاتما حيث الدّولة التي كان جزء منها في نظره " منحطّة " وأكثرها فاسدون بل أغلب حكّامها فاسدون وأغلب مسيّري الشّان العامّ فاسدون والأحزاب عصابات فساد والسّاسة غير محترمين أمّا الشعب فيختار الفاسدين " التّوانسة يختارون السرّاق " وفي دعا لهم أو عليهم " إن شاء الله يحكمكم إلّي كيفكم " عبارات صادمة لكنّهاليست جديدة فقد سبق للأستاذ عبّو أن عبّر في مقال مطوّل عن موقف سلبي من مفهوم الرّأي العامّ والشّعب وحضورهما ودورهما في التّاريخ …
أمّا الحزب الأغلبي فهو حسب الأستاذ حزب الفساد بامتياز، بل اعتبر حزب قلب تونس أقلّ سوء من هذا الحزب من حيث الفساد، بل لو اعترف حزب الفاشية بالثّورة لكان أفضل منه ، ولكن اقتصرت تهمة الفساد التي وجّهها له على معلومات لم يكشفها تفيد ملكيّة غير رسميّة لقنوات تلفزيّة من خلال أسماء مستعارة … ورغم محدوديّة المعطيات التي عرضها على فساد هذا الحزب أعلن عن ضرورة رفع دعوى وحمّل القضاء مسؤوليّة المتابعة والبحث عن القرائن والأدلّة لإثبات الدّعوى … واعتبر أنّ منظوري هذا الحزب دمّرهم بن علي نفسيّا وأخلاقيّا وأصبحوا بفسادهم خطرا على البلد … طبعا دون أن يقيم أيّ دليل على أيّ ملفّ فساد سياسي أو ماليّ أو أخلاقي … كما أعلن أنّه وراء إعفاء وزرائهم بعد استقالة حكومة الفخفاخ الذي بقي طيلة الحصّة يدافع عنه ويبرّئ ساحته من تهمة تضارب المصالح والفساد ويتّهم من أزمعوا على سحب الثّقة من حكومته باعتراضهم على برنامجه لمقاومة الفساد …
وانتهى به الأمر في آخر المطاف إلى اعتبار حزبه نفسه مخترقا من الفساد ودعا الشقّ النّظيف إلى حسم المعركة مع الشقّ الفاسد …
إزاء هذا التّشخيص العدمي والحصيلة الثّقيلة اعترف أنّه من هواة السّياسة مقرّا بعجزه عن مواجهة عصابات الفساد بالطّرق العاديّة بل صرّح بخطاب تقريريّ أنّ " التّغيير بالوسائل العاديّة غير مفيد ".
وعرض نماذج عمّا كان يزمع القيام به من تغيير بغير الوسائل العاديّة … حيث دعا لمصالحة مع أصحاب ملفّات الفساد لكن بعد القيام بضربات كبيرة للفاسدين و" كبار أصحاب الممتلكات " من خلال توظيف أجهزة " المخابرات والاستعلامات" دون المرور عبر القضاء، بل دعا وزارة الدّاخليّة إلى تحريك ملفّات السياسيين من خلال ما توفّر لديها من معطيات استعلاماتيّة في خرق واضح لكلّ ما بنيناه عن حماية المعطيات الشخصيّة وعدم توظيفها بشكل انتقائيّ وانتقاميّ وتصفويّ …
كلّ ما عرض سابقا لا يعنيني فيه الجانب السّياسي المباشر والمناكفات السّجاليّة مع الخصوم ولكن يلفتني فيه أمر آخر أراه خطيرا لو تحوّل إلى الطبّقة السياسيّة وصار قناعة لدى الفاعلين في الشّأن العامّ من موقع سياسي أو جمعياتي أو فكري سياسي وهو اليأس من التّغير بالوسائل العاديّة وضرورة الالتجاء إلى وسائل أخرى غير عاديّة وعد الأستاذ بالاستثمار فيها مستقبلا ودعا إلى تفعيلها …
والمقصود بالوسائل العاديّة القانون والقضاء وأداء السّلطة التنفيذيّة والتّشريعيّة … فجميعها حسب الأستاذ ليست مسالك ناجعة لمقاومة عصابات الفساد المستشري في الدّولة " المنحطّة " والمجتمع والأحزاب ومسيّري الشّأن العامّ …
ما هي الوسائل غير العاديّة إذا؟
الأستاذ ليس داعية احتراب أهلي وانقلابات دمويّة على الأقلّ من خلال ما عبّر عنه في الحصّة ولكنّ ما يستشفّ من منطوق تصريحاته أنّه يؤمن بالقلّة القليلة الطّاهرة النقيّة أو " الفرقة النّاجية " أو الطّليعة الثوريّة التي تقلب الطّاولة على عصابات الفاسدين وتغيّر موازين القوى وتحسم الموقف مع " الدّولة المنحطّة " وعصابات الفساد … بوسائل العنف الثوري لو اقتضى الأمر حيث ورد في تصريحه " لو يداهم الشعب وكر الفاسدين سيجبر القضاء على التحرّك "
في تقديري بهذا الاستشراف والمقاربة يقترب الأستاذ عبّو من البرنامج الهلامي لرئيس الدّولة ويدخل نادي الشعبويّة والفوضويّة … وفي تقديري كذلك لو تريّث في الظّهور الإعلامي وترك المجال لامتصاص الأثر النّفسي المحبط لسقوط الحكومة لكان أقلّ إحباطا وأكثر اتّزانا في تحليل الواقع وتشخيص علله وسبل إصلاحه واستشراف المستقبل … ولكان كما عهدناه منذ سنوات الثّانوي ودودا عقلانيّا محاورا جيّدا متوازن الأفكار والمواقف والسّلوك …
السّياسة ليست مغامرة ولا مقامرة كما ورد في تصريح الأستاذ عبّو بل حسن تدبير للشأن العامّ وبرنامج إصلاح وتجديد من خلال موازنة دقيقة ذكيّة بين المبادئ والوسائل المتاحة مع كثير من الصبر والمصابرة والمرابطة والمثابرة والتّضحيات والثّقة في إمكانيّة تحقيق الأهداف وقديما قال الأجداد "الدّوام يثقب الرّخام".