بسبب ما ترتكبه فئات متنطّعة باسم الإسلام من جرائم اعتبر رئيس فرنسا أنّ الإسلام يعيش أزمة على امتداد العالم ودعا على طريقة الخطاب المزدوج إلى عدم وصم المسلمين ... يصم دينا ويدعو إلى عدم وصم أتباعه.
كان خطاب ساسة الغرب ونخبه على امتداد عقود قائما على التّمييز بين الإسلام وما يمارس باسم الإسلام من طرف جماعات التطرّف العنيف، اليوم أصبح الدّين الإسلامي موصوما باعتباره يعيش أزمة ... قياسا على هذا المنطق في التمثّل يمكن أن نعتبر أنّ اليهوديّة تعيش أزمة بسبب ما يمارس باسمها من فرض لكيان غاصب محتلّ ارتكب أبشع الجرائم ضدّ الإنسانيّة في التّاريخ الحديث والمعاصر ...
كما تعيش المسيحيّة كذلك أزمة بسبب ما يقدّم باسمها من دعم لهذا الكيان بل يمكن سحب مظاهر الأزمة على البروتستانتيّة التي باسمها جيّش اليمين المحافظ في أمريكا لكثير من التدخّلات العسكريّة في العالم العربي والإسلامي ...
كما تعيش العلمانيّة الفرنسيّة ومن قبلها الثّورة الفرنسيّة وفلسفة الأنوار أزمة بسبب ما ارتكب باسمها من جرائم الاستعمار ونهب ثروات الشّعوب ودعم الدكتاتوريّات والانقلابات العسكريّة في مستعمراتها القديمة والسّيطرة على مقدّراتها وإراداتها …
الإسلام لا يعيش أزمة ... بل فرنسا هي التي تعيش أزمة مع مواطنيها المسلمين ... تضيق بهم ذرعا وتفشل في إرساء منظومة قيم وحقوق تضمن التنوّع الثّقافي وحريّة المعتقد ... فرنسا تنقلب حتّى على علمانيّتها التي أرساها قانون 1905 ويتحوّل رئيسها العلماني إلى داعية لإصلاح الأديان ... لتتحوّل اللائكيّة الفرنسيّة معه إلى ضرب جديد من كاثوليكيّة العصور الوسطى بمحاكم تفتيشها البغيضة …
فرنسا تعيش أزمة هويّة عنوانها مناقض لقيم الأنوار ولشعار الجمهوريّة " مساواة أخوّة حريّة " مساواتها تمييزيّة وأخوّتها طائفيّة وحريّتها لا تشمل كلّ مواطنيها " منذ أيّام الجدل الحارق لجزء من الإعلام الفرنسي حول ارتداء المسلمين للتبّان في غرف الملابس أثناء الاستحمام بعد حصص الرّياضة واستعمال فوطة لتغيير لباسهم الدّاخلي حيث اعتبر ذلك مناقضا لمبادئ الجمهوريّة في فضاء عموميّ " طبعا دون نسيان القضيّة القديمة المتجدّدة المتعلّقة بارتداء الحجاب …
فشلت العلمانيّة الفرنسيّة في استيعاب اختلاف مواطنيها من أصول عربيّة ومن معتنقي الدّين الإسلامي ... فشلت في إدماج حواضر الهجرة وأجيالها المتعاقبة وبؤر التّهميش والأحياء السّاخنة وبقيت تعيش على أمل تنميطهم وسلخهم عن خصوصياتهم … فشلت في مقاومة النّزوع العنصري والتمييزي والإسلاموفوبي ...
فشلت في تحصين عدد من مواطنيها عن النّزوع إلى التطرّف والإرهاب وحمّلت المسؤوليّة لدينهم ولم تستمع لكثير من الأصوات الأكاديميّة العاقلة في تشخيص الظّاهرة وتفسير دوافعها وتقديم تصوّارات لمعالجتها ... فشلت في التخلّص من سياساتها ذات الخلفيّة الهيمنيّة الاستعماريّة القديمة وبقيت تتمثّل مستعمراتها القديمة كمجال حيويّ على حساب إرادة شعوبها ومساراتها الدّيمقراطيّة والتنمويّة …
عندما تستشعر دولة أنّ هويّتها مهدّدة بسبب قطعة قماش توضع على الرّأس أو الخصر فمن الذي يعيش أزمة؟ هذه الدّولة أم الدين الذي استوعب بداخله كلّ الأجناس والأعراق والأعراف واللغات والثّقافات والشّعوب والملل والنّحل والمذاهب والتّأويلات ... وتعاقبت على الحكم في ظلّه مختلف تلك الشّعوب ... بل تمكّن العبيد من الوصول إلى الحكم وأسّسوا دولا ومناطق نفوذ ... بينما لا يزال السّود في جلّ دول الغرب يناضلون من أجل الحدّ الأدنى من الكرامة والحقوق والمساواة ...
نعم تعيش المجتمعات والدّول ذات الأغلبيّة المسلمة أزمة مخاضات النّهوض من وضع التخلّف الحضاري والعلمي والسّياسي والاقتصادي ... وكلّما توفّرت شروط التحرّر من التخلّف وجدنا فرنسا ونخبها المستلحقة في صفّ قوى الهيمنة والاستبداد والردّة الحضاريّة …
نعم يحتاج المسلمون إلى تطوير النّظر إلى دينهم وتجديد فهمهم لكثير من المسائل ضمن ما يوفّره لهم هذا الدّين ذاته من مساحات للاجتهاد والتّجديد والانفتاح على ثقافات الشّعوب والتقاط الحكمة ضالّة المؤمن التي أنّى وجدها التقطها كما ورد في الحديث النّبوي... والفكر الإسلامي الحديث والمعاصر يتوفّر على قدر محترم من النّزوع التّجديدي رغم لوثات الفهم الحرفي والتعصّب والتطرّف وتشوّهات الإرهاب ومخلّفات الاستبداد …
ولكنّ تحقيق هذه المهمّة الحضاريّة بشكل ناجع ناجز مثمر يتوقّف على تحقيق الدّيمقراطيّة والحكم العادل ومنظومة المواطنة، هذه المطالب الذي تضنّ بها فرنسا على شعوب المنطقة ولا تراها أهلا لها إلّا بما يضمن مصالحها ومنافعها الماديّة والثقافيّة ... تريد من شعوبنا ودولنا ديمقراطيّة تابعة تحافظ على بلداننا أسواقا حصريّة لبضائعها وثقافتها وسياساتها …
هذه فرنسا العاجزة عن مواكبة التطوّر الحضاري والفكري والسياسي لشعوب العالم التي تريد الانعتاق من مستبدّيها ومتطرّفيها يمينا ويسارا لتنجز نموذجها الحضاري المستنبط من سياقاتها الثّقافيّة ومنابع ذاتها وأوضاعها المحليّة …
فرنسا تعيش أكبر أزمة في تاريخها لأنّها تشهد حالة ازدواج وتمزّق حادّة بين ثقافة الأنوار وثقافة الاستعمار ... وعوض أن تواجه بكلّ شجاعة واقتدار أزمتها الوجوديّة تحاول تصديرها إلى للخارج ... لكنّه من سوء حظّها خارج الدّاخل المتّهم بأغرب تهمة في تاريخ الشّعوب: " الانفصال الشّعوري " فالمسلمون في فرنسا بحسب رئيسها انعزاليّون وانفصاليّون شعوريّا عن وطنهم ...
هكذا تنتصب فرنسا ماكرون مثل كنيسة العصور الوسطى قيّمة على ضمائر مواطنيها ومعتقداتهم وأذواقهم ونمط عيشهم وتدعو لإصلاح دينهم دون بقيّة الأديان التي تعيش انسجاما مع الحداثة رغم كلّ ما يرتكب باسم هذه الأديان من انتهاكات في العالم …
على فرنسا أن تكنس أمام باب بيتها وتفضّ أزماتها الاقتصاديّة والسياسيّة والأخلاقيّة مع مواطنيها وأن تواجه أزماتها برجولة وشجاعة دون تهرّب من استحقاقات مواجهة تلك الأزمات ... أمّا الإسلام فلن يكون كبش فداء لفشل سياسات فرنسا في الدّاخل والخارج.