في المجلس التّأسيسي كان التيّار الإسلامي ممثّلا من روافد وأجيال متعدّة، بعضها كان يصدر في أدائه عن تجربته السياسيّة والنّضاليّة دون فكّ الارتباط مع مرجعيّته الإسلاميّة، وبعضها كان البعد الدّعويّ العقائديّ أكثر حضورا في أدائه، وهؤلاء وضعوا المجلس في أزمات كادت تعصف به،
يكفي أن نذكّر باستحضار أحد نوّاب هذه الفئة تحت قبّة المجلس لآية الحرابة في سياق الحراك الاحتجاجي الاجتماعي الذي أدّى إلى قطع الطّرقات، الآية تنصّ على عقوبة القتل والصّلب وقطع الأيدي والأرجل من خلاف لمن اقترف جريمة محاربة الله ورسوله والإفساد في الأرض، إسقاط الدّلالة الحرفيّة للآية على حراك إجتماعيّ له سياقاته أثار المخاوف والانتقادات والاستقطاب الحادّ …
كما نذكّر بالسّياق الذي استدعى صياغة فصل من فصول الدّستور في سياق متشنّج، والمقصود ما صرّح به أحد نوّاب التيّار الإسلامي المحسوبين على الخطّ الدّعوي من اتّهام أحد نوّاب اليسار بعدائه للإسلام وما تسبّب فيه ذلك من جدل حادّ وتغذية لمناخات التشنّج والعداء، فوقع صياغة فصل في الدّستور من باب التّرضية وتوفير ضمان دستوريّ ضدّ التّكفير بقي نصّه ملتبسا ينقض بعضه بعضا …
وكأنّ التّاريخ يعيد نفسه مع أحد نوّاب كتلة أخرى لها مرجعيّة إسلاميّة حيث انبرى يلقي بكلّ حماس خطاب العقيدة والفقه في قضايا سياسيّة واجتماعيّة لها سياقاتها والتباساتها ليلقي بكتلته وبالبرلمان برمّته في أتون صراع مجانيّ طالما وقع استدراج البرلمان له لينتهي خطاب الصّفاء العقائديّ والافتخار والاحتفاء والجمجمات الألفيّة بردود أفعال أفضت إلى عمليّة ابتزاز أو ما اعتبر غدرا وخيانة …
فما الذي ربحته " حالة الوعي " من " حالة الغيبوبة " عن الواقع السياسي وحاجاته ومزاجه العامّ ؟ ما الفائدة من خطاب إثبات هويّة عقائديّة في سياق سياسيّ ؟
في كلّ هذه الحالات وغيرها تتبيّن المسافة بين العقيدة والسياسة، بين الخطاب الدّعوي والخطاب السياسي، الأوّل إطلاقيّ إعلائيّ وعظيّ تقريريّ والثّاني ينزع إلى تشخيص قضايا الواقع والبحث لها عن معالجات، وبعض هذه المعلاجات في استقراء النّصوص الدينيّة واستنطاقها بعقل الحاضر وهواجسه …
لا يمكن عزل المرجعيّة الإسلاميّة وحبسها في الفضاء الخاصّ كما يدعو بعض الحداثويين من متبلّدي الذّهن والمستلحقين ثقافيّا، ولكن كذلك لا يمكن استدعاء المقدّس لساحة الفعل السياسيّ وتقسيم الفاعلين السياسيين على أساسه، فلكلّ مجاله وقواعده وضوابطه ومنهجه وأسلوبه …
لهذه الكتلة أو تلك أنصارها الذين تعبّر عن ضميرهم ومزاجهم وانتظاراتهم وبوصلتهم السياسيّة، ولكن لهذا البلد كذلك ما راكمه من قيم سياسيّة وحقوقيّة وتعاقدات يُحْتَكَم إليها عند النّزاعات رغم كلّ المشهد الفتنويّ والتّآمريّ،
ولعلّ هذا هو الذي يحول دون الاحتراب الأهلي كلّما أطلّت الفتنة برأسها وحاول البعض النّفخ في كيرها لإشعال أوارها ... لكن في كلّ مرّة يحفظ الله هذا البلد بلطفه وعنايته وبما استقرّ في ضمائر أبناء هذا الشّعب من نزوع إلى السّلم …