كنت اقلّب رأيي بين عدد من المترشّحين للرّئاسة المؤهّلين ليكونوا مستأمنين على حماية الدّستور والدّيمقراطيّة والوحدة الوطنيّة، الدكتور منصف المرزوقي حمى الثّورة والدّولة والمسار الدّيمقراطي في مرحلة صعبة ، الدّكتور مصطفى بن جعفر رافق مسار التّأسيس الدّستوري وأوصله للتتويج بالمصادقة على الدّستور ، الأستاذ محمّد عبّو رجل وطنيّ شريف يستأمن على دستور البلد وثورته والحقوق الاجتماعيّة ، هؤلاء مرشّحون جديّون، الأستاذ قيس سعيّد لا تزال صورته ومواقفه ملتبسة في ذهني فهو طارئ على الشّأن العام ، الأستاذ سيف الدّين مخلوف شخص صادق ومتحمّس لكن مازال مبكّرا تصعيده إلى موقع متقدّم وحسب ترشّحه أن يعزّز القائمات التي أنشأها .
مرشّحوا المنظومة القديمة والتّوافق المغشوش وقطّاع الطّرق لا يدخلون في دائرة تقليب الرّأي.
عندما توفّي رئيس البلد واختلطت الأوراق وأصبحت الرّئاسيّة معبرا للتّشريعيّة اضطرّ النّهضويّون لترشيح الأستاذ عبد الفتّاح مورو رغم عدم اقتناع الكثير منهم بهذا الخيار بمن في ذلك رئيس الحركة، هاجس الفيتو الإقليمي والدّولي وفوبيا النّكسة المصريّة ومصير مرسي كانت ضاغطة على المؤسّسة التنفيذيّة التي تحتكر القرار وتحديد السياسات في ظلّ مؤسّسة شوريّة ضعيفة ، كلّ ذلك جعل التّرشيح من الدّاخل مستبعدا بل مستحيلا وكان خيار مساندة رئيس الحكومة واردا رغم إصرار هذا الأخير على الدّعم الخفيّ غير المعلن الذي يشكّل إهانة لمن يريد في نفس الوقت مساندتهم والتّمايز عليهم في خطاب حملته الانتخابية ،
وفاة الرّئيس جعلت الترشيح من الدّاخل خيارا مطروحا للنّقاش داخل النّهضة بل أمرا واقعا لا فقط تحت ضغط قواعد النّهضة بل لإنقاذ الحملة التّشريعيّة للحزب ، ولكن بقيت المؤسّسة التنفيذيّة لآخر لحظة غير مقتنعة بالترشيح من الدّاخل حتّى حسم رئيس الحركة أمره في جلسة الشّورى وفاجأ الجميع بقراره التنازل عن حقّه القانوني في التّرشيح لصالح نائبه مخالفا رأي أغلبيّة القيادة التنفيذيّة حيث يعتبر بعضهم أنّ مورو ليس مضمونا أي ليس لديه القابليّة ليكون طيّعا لإرادة حزبه الذي رشّحه ولأجندته السياسيّة ، فضلا عن فوبيا الفيتو الخارجي.
هي سياقات قدريّة ساقت الرّجل ليكون مرشّحا رئاسيّا ليخرج بذلك من دائرة التّهميش الحزبي الذي فرض عليه طيلة عقود في حزب كأنّه لا يتّسع لزعيمين، وكذلك من دائرة تهميش الإعلام السّطحي الذي ينزع نحو الإثارة والسّجاليّة المفرغة من المعنى، وبترشّحه تغيرت المعادلة فنحن أمام مرشّح من الوزن الثّقيل بقطع النّظر عن الحزب الذي رشّحه ، هو رجل خارج دائرة التصنيفات النّمطيّة وفوق الأحزاب ذات السرديات التّماميّة،
هو لا يفوق المرشّحين الذين أسلفنا ذكرهم في الأمانة وصدق الالتزام بحماية الدّستور والدّيمقراطيّة ومؤسسات الدّولة والوحدة الوطنيّة لكنّه يمتاز عليهم بما لديه من زخم رمزيّ وتاريخي وثقافي ومعرفي ورصيد نضاليّ وعمق تونسي شعبيّ ومعرفة بالواقع ومواطن الخلل والعلل فيه بحكم طول معاشرته لمهنة القضاء والمحاماة وبفضل ما لديه من علاقات في الأوساط السياسيّة والعلميّة على المستوى الإقليمي والدّولي فهو من السياسيين القلّة الذين فتحت لهم أبواب القصور الرّئاسيّة والملكيّة وفضاءات الجامعات وقاعات المؤتمرات والنّدوات على امتداد دول العالم ، وهذا ينسجم مع الطّابع الاعتباري الرّمزي والصّلاحيّات الخاصّة الدّقيقة التي يمنحها الدّستور لرئيس الجمهوريّة.
ليس هذا إعلان مسبق عن خيار ترشيحه للرّئاسة بما ينتهك الخلوة الانتخابية لكنّه تفكير بصوت عال متجرّد عن العواطف التي تميل ربّما بل تجمح إلى مرشّحين آخرين كانوا يمثّلون خيارا بديهيّا قبل دخوله خطّ السّباق الانتخابي ،
لن نقول "هو أو لا أحد" ولكن نقول هو الأكثر جديّة وجاذبيّة وقدرة على الإقناع بأهليّته للاستجابة للشّروط الذّاتيّة والموضوعيّة لتحمّل أعباء المنصب الذي يبقى محكوما بضوابط الدّستور والرّقابة العامّة.