جمعنا مالك الصّغيري ذات يوم بعد الثّورة في أحدى الفضاءات لنقضّي أيّاما نناقش فيها مبادرة لفعل مدني بعيد عن التحزّبات ... اختارنا جامعيين وطلبة وناشطين من مختلف الانتماءات الفكريّة يمينا ويسارا ... معياره في ذلك من كان يقدّر أنّهم مستقلّون عن الأحزاب أو على مسافة نقديّة من تجاربهم السياسيّة والحزبيّة ...
كانت النّقاشات ثريّة وعميقة وطويلة لكنّها لم تتوّج بمبادرة ... ربّما لأنّ الوعي الذي قاد مالك كان متقدّما على لحظة سياسيّة بامتياز كان فيها الاستقطاب على أشدّه ولا مهرب من الاصطفاف المباشر أو غير المباشر ... المسافات النّقديّة في سياقات بتلك الحدّة من الاحتقان تحتاج عقولا باردة قادرة على التجرّد من الجزئيّ إلى التّفكير العميق في الكليّ ... ولم يكن ذلك متيسّرا لغالبيّة المعنيين بالشّأن العامّ.
كان مالك يساريّا شريفا ... ناقدا لليسار ومؤمنا بقيمه ... معارضا لليمين ومحافظا على علاقات ودّ وتواصل إنساني مع الجميع ... لذلك أحبّه الجميع واحترموا صدقه وأشواقه الثّائرة ...
هي نفس الأشواق التي كان يعبّر عنها في ساحات المعهد التّحضيري بدار المعلمين العليا بالقرجاني زمن النّضال الطلّابي في مواجهة الاستبداد ... كنت أسمع نبرات خطابه من القسم بعد مغادرة الطّلبة للالتحاق بالاجتماع ... وهي نفس الأشواق التي كان يضمّنها في مداخلاته بلقاءات منتدى الجاحظ الفكريّة التي لم يكن يتخلّف عنها ... وهي نفسها في نصوص جيل جديد تلك التّجربة الفريدة التي كانت له فيها بصمات عميقة ... وانتهى تيّاريّا لأنّه رأى فيه تجسيدا لأشواقه الثّائرة رغم محافظته على روحه النقديّة المتمرّدة ...
الآن يترجّل تاركا لوعة وحرقة وألما وحزنا عميقا في قلوب أهله والده سي الصّادق المناضل الذي غيبته السّجون عن مالك كما تغيبه عنه الموت اليوم ... والدته خالتي نوّارة المرأة المجاهدة ورفيقة دربه عزّه وكلّ أفراد عائلته ورفاقه وأحبّائه وكلّ من عرفه عن قرب أو عن بعد ...
رحمك الله يا مالك وجازاك على قدر حبّك لهذا البلد وشعبه وشبيبته الثّائرة وألهم أهلك وذويك وأحبّاءك جميل الصّبر والسّلوان.