1ـ أسبوع آخر بدون مجلس وزراء، بدون مداولاة في مشاريع الأوامر والمراسيم، وبدون الاستماع لمشاغل الوطن، وفي تعليق غير سليم للسُّلط التَّنفيذيَّة والتَّشريعيَّة والقضائيَّة للدَّولة وفي تعطيل لمصالح البلاد والعباد...
2ـ وانقلاب خطير في القاعدة التَّسييريَّة وانقلاب النّواميس برئيس جمهوريَّة المنتخب يجتمع برئيسة حكومة تدابيره الاستثنائيَّة المُعيَّنة من طرفه بعدما "عاد مُتحزِّما" ليرفع لها تقريرا عن مشاركته وينقل لها هواجسه بعد محادثاته مع نظرائه في القمَّة الأوروبِّيَّة الإفريقيَّة ببروكسال؟؟؟.. وكأنَّ القاعدة انقلبت رأسا على عقب، وكأنَّ رئيس الجمهوريَّة فوَّض صلاحيَّاته غير القابلة للتَّفويض، خارج حالات الشُّغور المؤقَّت أو الدَّائم، في رسم وإدارة السِّياسة الخارجيَّة لرئيسة حكومة التَّدابير، بدون نصٍّ، ولا هُدى ولا كتاب مُنير؟؟؟
3ـ وبالأخص ارتكاب خطأ جسيم جديد لرئيس الجمهوريَّة بالمسِّ من القيمة القانونيَّة لفقه القضاء وللقضاء الدُّستوري في إنشاء القاعدة القانونيَّة، في استعارات مُخيفة للسَّفَّاح "ماكسيميليان دو روباسبيار" (Maximilien de Robespierre) سفَّاح الثَّورة الفرنسيَّة... نعم سيِّدي الرَّئيس، وعكس مقال أحد فقهاء أقصى اليمين القانونجي الغربي الفاشستي الَّذي استشهدتُّم به، ولا أدري من أيِّ صحيفة صفراء "استحضروا روحه" و"استخرجوه" لكم "القاضي المُنشئ للقانون، لا شكرا": "!Un juge créateur de droit?, non merci"؟؟؟..
4ـ وعكس هذا "الهذيان الرُّوباسبياري"، فإنَّ القاضي يساهم في بناء وإنشاء القاعدة القانونيَّة (Que bien sûr, le juge est bel et bien créateur de la norme juridique)، أي نعم.. أوَّلا: عبر القوَّة القانونيَّة لفقه القضاء (La Jurusiprudence)، وثانيا: عبر القاضي الدُّستوري (Le Juge constitutionnel) الَّذي يناقش دستوريَّة القوانين (La Constitutionnalité des Lois) ويقبل بالدَّفع بعدم دستوريَّتها، بل وينقُضها لعدم دستوريَّتها، بل وينقُضها أيضا لعدم توافقها مع المعايير الدُّوليَّة ومع العُرف ومع القواعد الآمرة للقانون الدُّولي.. بل ويعلو قرار القاضي الدُّستوري على المُشرُّع، أي نعم على السُّلطة التَّشريعيَّة البرلمانيَّة المنتخبة وحتَّى على المُشرِّع الشَّعبي في حالة الاستفتاء الشَّعبي، ويُجبره على تعديل النُّصوص اللَّادستوريَّة.. حتَّى لا تتحكَّم الشَّعبويَّة والعواطف الهيَّاجة والغرائز ونزعات الثَّأر والفوضى والثَّورجيَّة في القاعدة القانونيَّة الأصيلة الثَّابتة المُجرَّدة المتجرِّدة من العواطف والأزواء والنَّزوات..
5ـ بل وأدخلت أغلب الدِّيمقراطيَّات، في عالم القانون الإسلامي (Droit musulman) وفي عالم القانون الأنجلوسكسوني (Common Law) منذ أمد بعيد، وفي النظام المدني (Système civil) النَّابوليوني حديثا، آليَّة الدَّفع بعدم دستوريَّة القوانين وهي آليَّة للرَّقابة الدُّستوريَّة اللَّاحقة، وليس فقط الرَّقابة الدُّستوريَّة السَّابقة على دستوريَّة مشاريع القوانين والقوانين سواء قبل عرضها أو وقبل ختمها الموجودة منذ أمد بعيد..
6ـ بل وحصل المتقاضي (le justiciable) العادي في فرنسا على حق طرح "المسألة الأوَّليَّة (أو المبدئيَّة) الدُّستوريَّة" (QPC: Question prioritaire de Constitutionnalité)، قبل أي تطبيق لأيِّ قانون ساري المفعول أمام المحاكم العدليَّة الجزائيَّة والمدنيَّة والتِّجاريَّة والشُّغليَّة والإداريَّة والماليَّة والانتخابيَّة وفي كل مجالات التَّقاضي، ويقضي فيه المجلس الدُّستوري... بل وأصبح هذا الحقُّ حقًّا أساسيًّا من حقوق الإنسان: "الحق في مسائلة دستوريَّة القوانين"، بموجب الفصل 61 الفقرة الأولى من الدُّستور الفرنسي، بعد تنقيح 23 جويلية 2008.. وتُعلَّق كل الآجال والإجراءات إلى حد تصريح القاضي الدُّستوري بدستوريَّة أو عدم دستوريَّة القانون المعترض عليه، جزيًّا أو كلِيًّا، بعد الاستماع لدفوعات الأطراف في القضيَّة بمعايير وضمانات المحاكمة العادلة، بما في ذلك القائمين بالحق الشَّخصي ومن بينهم الجمعيَّات وأصحاب المصلحة، بما في ذلك أحيانا الجامعات وكُلِّيَّات ومعاهد الحقوق الَّتي لا يُدرِّس فيها زملاء الرَّئيس الأستاذ قيس سعيِّد..
7ـ بل وحصل قاضي الدُّستوري الفرنسي على سبيل الذِّكر على حق نقض النُّصوص القانونيَّة اللادستورية آليًّا، وتطبيق النَّقض على القضيَّة المنشورة الماثلة أمامه وشبيهاتها من القضايا المنشورة بعد تسجيل الاعتراض، وإمهال السُّلطتين التَّشريعيَّة والتَّنفيذيَّة ستَّة أشهر على الأقصى لإدخال التَّعديلات الدُّستوريَّة، وإلَّا يصبح قرار القاضي الدُّستوري نافذا وينشر آليًّا بالرَّائد الرَّسمي (المجلَّة الرَّسميَّة) ويٌنفَّذ حالَّا كقانون من قوانين الدَّولة وتُنقَّح القوانين آليَّا بإدراج قرار القاضي الدُّستوري في نصِّ القانون واجتزاء وشطب ما أقرَّ القاضي الدُّستوري بعدم دستوريَّته..
8ـ وهو مبدأ قانوني وفقهي ودستوري ثابت بما في ذلك في فرنسا، رغم مساعي "روباسبيار"، المُكنَّى في كتب التَّاريخ "السَّفَّاح / القاتل / الرُّعب"، لإلغائه أيَّام "الهذيان الثَّورجي" الَّذي رافق الثَّورة الفرنسيَّة سنة 1789، ورغب حتَّى في منع استعماله أصلا من اللُّغة الفرنسيَّة لكنَّه لم ينجح... بل حافظ الفقه على موقعه كمرجع لإنشاء القاعدة القانونيَّة... وتطوَّر القضاء الدُّستوري ليحوز على حقوق وأدوار متقدِّمة في صنع ومراقبة القاعدة القانونيَّة بل وإنشائها وفي إنشاء الحق في الدَّفع بعدم دستوريَّة القوانين كمسألة أوَّليَّة للدُّستوريَّة، أي لمسائلة القاعدة القانونيَّة سارية المفعول والنَّفاذ.. بل أصبح الفقه مصدرا والحُكم والفقه الدُّستوري يوازي القانون ويتجاوزه ويسبقه في أحيان كثيرة وبالأخص وبالأخص في القضاء الدُّستوري والإداري والتِّجاري، ويجبره على التَّطوُّر..
9ـ بل وأصبح فقه اللِّجان التَّعاقديَّة الأمميَّة والآليَّات الإقليميَّة والأمميَّة لحقوق الإنسان والمحاكم الجنائيَّة الدُّوليَّة ومحكمة الجزاء الدُّوليَّة مصدرا لإنشاء القاعدة القانونيَّة، يُحمل على الدُّول إدخالها في نظامها القانوني الدَّاخلي وينطبق عليها، ناهيك عن انطباق القواعد الآمرة للعُرف وللقانون الدُّولي على القاضي المَحلِّي الوطني وامتثاله لها سواء تمَّ إدماج القاعدة القانونيَّة أم لا من طرف المُشرِّع المَحَلِّي الوطني... فيسبق بذلك القاضي المُشرِّع والمُنفِّذ وينشئ القاعدة القانونيَّة..
10ـ يبدو أنَّ رئيس الجمهوريَّة لم يحيِّن بعدُ مراجعه القانونيَّة والدُّستوريَّة والفقهيَّة... وبدى يَحِنُّ لهذيان "روبسابيار"... وبقي يجترُّ ما حوته دُفَّات الأسفار القانونيَّة القديمة للمدرسة القانونجيَّة الفرنسيَّة الَّتي شهدت بنفسها تطوُّرات معتبرة... وذلك رغم استعارته اليوم لمصطلح "روح القوانين" الخلَّاق والَّذي يتناقض مع سلوكه القانوني المدرسي والحَرْفِي والإجرائي... ولا زال يراوح في خيال "الجَحْجَلُول" شاعر شيطان حكيم المَعَرَّة وهرولته للورى "زَقَّفُونَة"..
11ـ وبعيدا عن "الزَّقفنة" الفكريَّة"، فإنَّ تصريح رئيس الجمهوريَّة اليوم 19 فيفري 2022 أمام رئيس حكومة التَّدابير الاستثنائيَّة خطير جدًّا، من جهة أنَّه يُعبِّر عن رفض رئيس الجمهوريَّة رسميًّا لدور القاضي في فقه القضاء، والأخطر من ذلك لدور القاضي الدُّستوري في صنع وتعديل وإلغاء القاعدة الدُّستوريَّة وفي إنسائ القانون... أي نقض القضاء الدُّستوري، بجرَّة إحالة على مقال مغمور لفقيه فاشستي فرنسي مغمور...
12ـ خطورة هذا التًّصريح تكمن في تقديم تفسير "جَحْجَلُولِي" (نسبة للشَّاعر الخيالي "الجَحْجَلُول" من خيال حكيم المَعَرَذة في "رسالة الغُفران") و"زقفنة فكريَّة" (تحيُّل فكري، للإيهام بالتَّقدُّم مع السَّير إلى الورى "زَقَّفُونَة")، لرفض رئيس الجمهوريَّة لختم القانون المنقِّح لبعض أحكام القانون الأساسي المُنشئ للمحكمة الدُّستوريَّة ورفض تعيين الأعضاء الَّذين يعودون دستوريًّا لاختياره، بتعلَّات مدرسيَّة حَرْفيَّة واهية لا تستقيم أمام مبدأ تغليب"روح القوانين" على الشَّكليًّات...
13ـ والخطير اليوم هو تجميع رئيس الجمهوريَّة للسُّلطات التَّنفيذيَّة والتَّشريعيَّة "بالأصالة التَّدابيريَّة الاستثنائيَّة" والقضائيَّة "بالوكالة التَّدابيريَّة الاستثنائيَّة" والتَّأسيسيَّة "بالأصالة الاستشاريَّة" وب"مجلس تشخيص مصلحة النِّظام" للثُّلاثي الأستاذة سعيِّد ومحفوظ وبلعيد، بعد "اسْتُقِيلَة" مُقرِّرة المجلس ومديرة الدِّيوان السَّابقة وبعد انسحاب العميد بن عيسى... فالخطير اليوم هو سطو رئيس الجمهوريَّة واستحواذه بالتَّالي، بتفسيره التَّوسُّعي للفصل 80 للدُّستور النَّافذ، على تأسيس وإنشاء القادة الدُّستوريَّة المراسميَّة، وسنِّ وتشريع القاعدة القانونيَّة، وتنفيذيها، والقضاء بها، وتحرُّره من أيِّ دفع باللَّاقانونيَّة واللَّادستوريَّة، في حُكم مطلق خطير لم تشهد له الإنسانيَّة مثيلا، غير الأنظمة الشُّموليَّة الثَّورجيَّة أو الشُّيوعيَّة أو الإماميَّة أو السُّلطانيَّة الَّتي لا مُعقِّب لحكم سَلاطينها وسَتالينها..
14ـ و"الخطورة الزَّقَّفونيَّة" (خطوة السَّير إلى الورى زَقَّفُونَة مع الإيهام بالتَّقدُّم وصلاح الحال المُحال) تكمن أيضا في سطو رئيس الجمهوريَّة على السُّلطة التَّأسيسيَّة، عبر استئثاره بالتَّفكير مكان الشَّعب ونخب البلاد وقواها الحيَّة رجال ونساء قانونها في "الدُّستور الجديد" الَّذي يريد أن يفرض فيه رؤاه الشَّخصيَّة الفردانيَّة على عموم الشَّعب... ويبدو أنَّه لا مكان فيها لا لمجلس تشريعي ،ولا لفقه قضاء ولا لقضاء دستوري ولا للدَّفع بعدم دستوريَّة القوانين…
15ـ وهو من أخطر التَّصريحات المخيفة لرئيس الجمهوريَّة ومنهجيَّة تحطيم مُقوِّمات الدُّستور وأركان الدُّستور دولة القانون والحق وسياسة "السَّير إلى الورى زَقَّفُونَة"، وبيع المكروه في لبوس وَهْم التَّقدُّم وسراب دخول الجنَّة "زقَّفونَة"…
16ـ حفظ الله تونس من كل مكروه، ومن كل سير نحو الفوضى ونحو اللَّامعنى ونحو اللَّاقانون ونحو المجهول، مهما كانت تقنيات "الجَحْجَلُول" المتحيِّل، "قَبَّلُونَة" أو "جَنَّبُونَة" أو "تَحْتَتُونَة" أو "فَوْقَتُونَة" أو "زَقَّفُونَة"،