كما كان منتظرا، تقدَّمت مديرة الدِّيوان الرِّئاسي السَّيِّدة نادية عكاشة باستقالتها لرئيس الجمهوريَّة بسبب "استحالة العمل (معه) في هاته الظُّروف"، بعد ستَّة أشهر من تفعيل رئيس الجمهوريَّة لقراءته التَّوسُّعيَّة جدًّا للفصل 80 من الدُّستور، وبعد سنتين من وصوله سدَّة الحُكم بانتخابات حصد فيه سُدس الأصوات في الدَّور الأوَّل وثلاثة أرباع الأصوات في الدَّور الثَّاني ورافقته تلميذته السَّابقة منذ أيَّامه الأولى في قرطاج منذ أكثر من سنتين وقرابة نصف ولايته الرِّئاسيَّة..
تنسحب السَّيِّدة عكاشة بعد أن نجحت في عزل أغلب خصومها من الدِّيوان الرِّئاسي وفي الحكومة وفي أجهزة الدَّولة، وعزل رئيس الجمهوريَّة داخليًّا وخارجيًّا بيد من حديد وبعصابات افتراضيَّة وأقلام وأصوات إعلاميّة لنهش أعراض خصومها داخل الدَّولة وخارجها وتشويههم، وعلى حساب الدَّولة.. وبلغ الأمر حدَّ تهديد المصالح العليا للدَّولة، عبر إقالة وإهانة سفيريْن لتونس لدى المنتظم الأممي وتونس تحمل أمانة عضويَّة مجلس الأمن الدُّولي.. وبعض هاته القضايا لا يزال منشورا أمام القضاء..
تنسحب السَّيِّدة عكاشة لفائدة شق الوزير شرف الدِّين وحليفه الجارندي، واللُّوبيات الأمنيَّة والجهويَّة والماليَّة والإيديولوجيَّة الَّتي تقف ورائه، ولكن أيضا لفائدة سطوة العائلة والدَّور المتصاعد لعائلة الرَّئيس وعلى رأسها شقيقه نوفل وشقيقته وزوجته والمحيط المتسربل والمتسلِّل حولها..
تنسحب السَّيِّدة عكاشة في الوقت الََّذي تعيش فيه الدَّولة والإدارة حالة شلل تام، وتواجه فيه البلاد أحد أشرس الأزمات في تاريخها منذ الاستقلال بغياب الدُّستور وغياب البرلمان لأوَّل مرَّة في التَّاريخ، في أزمة شاملة خانقة متعدِّدة الأبعاد المُؤسَّسيَّة والسِّياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والأمنيَّة، مع تصاعد العزلة الخارجيَّة..
تنسحب السَّيِّدة عكاشة في وقت تتصاعد فيه وتيرة النَّقد الخارجي للاتنهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وتهديد دولة القانون وتقويض أسس الفصل بين السُّلطات، بعد المواقف الصَّارة للمفوَّضة السّامية لحقوق الإنسان وللأمين العام للأمم المُتَّحدة والبرلمان الأوروبي والمفوَّضيَّة الأوروبيَّة والدِّيبلوماسيَّة الألمانيَّة والرَّئيس الفرنسي، بالإضافة إلى الرَّسائل السَّلبيَّة الأخيرة للدِّيبلوماسيَّة الجزائريَّة والسُّعوديَّة أخيرا..
تنسحب السَّيِّدة عكاشة وسلطات التَّدابير الاستثنائيَّة في حالة شلل تام، وفي أنباء متواترة لتقديم رئيس حكومة التَّدابير استقالتها منذ يوم الخميس، وبعد شلل مجلس الوزارء وعدم نجاحه حتَّى في تأمين الاجتماع الدَّوري ليوم الخميس، وسحب صلاحيَّته لفائدة جلسات وزاريَّة مُصغَّرة حول طاولة رئيس الجمهوريَّة..
تنسحب السَّيِّدة عكاشة بعد ستَّة أشهر بالتَّمام والكمال (25 جويلية ـ 24 جانفي) من التَّفعيل التَّوسُّعي للفصل 80 من الدُّستور للانقضاض على الدُّستور و إعلان التَّدابير الاستثنائيَّة شفويًّا في 25 جويلية، ثُمَّ كتابيًّا في 22 سبتمبر، ثُمَّ تكميليًّا في 13 ديسمبر، تحت ضغط "لجنة تشخيص مصلحة النِّظام" الَّتي عوَّضت "مجلس الوزارء" وانتصبت "لجنة لتشخيص مصلحة النِّظام والتَّقرير في مصلحة النِّظام" على الطَّريقة الخُمينيَّة، بقيادة رجل القانون والمُنظِّر لإجراءات 25 جويلية والمُؤطِّر الجامعي لأبحاث الأستاذ سعيِّد قبل اعتلائه سدَّة الرِّئاسة الأستاذ أمين محفوظ أستاذ القانون العام وأحد أبرز رموز المدرسة القانونيَّة لأقصى اليمين، من مُنظِّري دولة "النِّظام" على حساب القانون والحُرِّيَّة والعدالة وعلى حساب الحقوق والحُرِّيَّات..
دلالات انسحاب السَّيِّدة عكاشة ستُفصح في السَّاعات والأيَّام القادمة عن الكثير ممَّا يختمر من صراعات الغُرف الخفيَّة المُظلمة، والانتصار المُؤقَّت لصف العائلة بقيادة الشَّقيق نوفل ولشق الوزيرة جفَّال وبالأخص لشق الوزير شرف الدِّين والجهات الَّتي تقف ورائه وتدفع به وبالبلاد للهاوية..
والواضح أنَّ رئيس الجمهوريَّة لن يجد الوقت الكافي لمزيد تعطيل حياة المجتمع والدَّولة من أجل فرض أفكاره الطُّوباويَّة الَّتي لم يتمكَّن من إنجازها أكاديميًّا تحت إشراف مُؤطِّره محفوظ، ولا من معالجة كل الأزمات والملفَّات والواجهات الَّتي فتحها على نفسه وعلى الدَّولة وعلى البلاد..
والواضح أنَّ الشَّعب والدَّولة لا يمكن أن يصبر أكثر على هلوسات الفوضويِّين والهُواة من "مُفسِّري الحملة الت"َفسيريَّة الرِّئاسيَّة" وصفحات الدَّجل والهذيان الإيديولوجي الَّتي تسوِّق لها في المجال الافتارضي من الداخل والخارج..
والواضح أنَّ شركاء تونس الدُّوليِّين مَرُّوا من مرحلة "متابعة الأوضاع" في سبتمبر الفارط (تصريح المُفوَّضة السَّامية لحقوق الإنسان) إلى التَّعبير عن الانشغال العميق (تصريح المُفوَّضيَّة السَّامية 11 جانفي 2022) إلى التَّعبير عن القلق وتقاسم القلق والمخاوف (الأمين العام للأمم المُتَّحدة الجمعة 21 جانفي) إلى "مراقبة الأوضاع عن كثب" (تصريح السَّفير الألماني في تونس 21 جانفي) إلى توليد "الالتزام بحقوق الإنسان وبالحُرِّيَّات الدِّيمقراطيَّة وبدولة القانون" على لسان الرَّئيس سعيِّد (بلاغ الرِّئاسة الفرنسيَّة بعد المكالمة الهاتفيَّة بين الرَّئيسين سعيِّد وماكرون السَّبت 22 جانفي)، وتغييب أي حديث عن قمَّة الفرنكوفونيَّة وتأكيد رفض عقدها في نوفمبر 2022 في جربة تحت سلطان التَّدابير الاستثنائيَّة (المساعي الكنديَّة مع العواصم الفرنكوفونيَّة فيما نقلناه سابقا)، والرَّفض الجزائري والسُّعود بتقديم أي مساعدة ماليَّة إضافيَّة (مكالمتين منفردتين السَّبت 22 جانفي بين الوزيرين لعمامرة وبن فرحان مع الوزير الجارندي المغضوب عليه منذ مائة وعشرة أيَّام)، ثُمَّ "الإمهال" إلى غاية القمَّة الأوروبِيَّة الإفريقيَّة 17ـ18 فيفري (بلاغ الإليزي بعد محادثة السَّبت 22 جانفي)..
وكلُّ هذا التَّململ الدَّاخلي والقلق والضَّغط الخارجي لن يكتفي بعُلب "المُصبِّرات" الَّتي اقترحتها وقرَّرتها "لجنة تشخيص مصلحة النِّظام" في غُرفها المظلمة واجتماعاتها اللَّاقانونيَّة ووجودها الَّذي لا معنى له لا دستورا ولا قانونا ولا ناموسا في دولة تحترم نفسها وتاريخها..
وأمام كل هاته التَّحدِّيات، على رئيس الجمهوريَّة أن يلعب دوره كرئيس للدَّولة التُّونسيَّة ولكل التُّونسيِّين، وأن يبادر بمخاطبة الشَّعب ويعلن عن رزنامة عمليَّة واقعيَّة سريعة لإنهاء التَّدابير الاستثنائيَّة الَّتي لم تدْحَر أيَّ خطر داهم، بل جائت بمخاطر وكوارث جاثمة على الشَّعب وعلى الدَّولة بما يُهدِّد البلاد بالفوضى وبالانهيار..
وإن لزم الأمر وتعذّر على رئيس الدَّولة العودة حالَّا للسَّير العادي لدواليب الدَّولة، فليطُن.. فليكلِّف حكومة تصريف أعمال بثلاث مهمَّات عاجلة: ـ ضمان استئناف العودة السَّريعة للسَّير العادي لدواليب الدَّولة، ـ وتحييد الإدارة عبر مراجعة عاجلة لتعيينات المحاباة وبالأخص كوارث ولَّاة المحاباة الإيديولوجيَّة، ـ وفتح حوار وطني جدِّي بعيدا عن استشارة وزير التَّدابير للتَّحيُّل الالكتروني وعن هذيان "لجنة تشخيص مصلحة النِّظام" بهدف لتعديل تشاركي طفيف على القانون الانتخابي..
ثُمَّ العودة مباشرة للشَّعب صاحب السِّيادة في انتخابات تشريعيَّة ورئاسيَّة سابقة لأوانها قبل مُوفَّى شهر جوان وبإشراف الهيئة العليا المستقلَّة للانتخابات وكافَّة الهيئات العموميَّة الدُّستوريَّة والمستقلَّة لتعديل الإعلام ومكافحة الفساد وحماية المعطيات الشَّخصيَّة وحقوق الإنسان والوقاية من التَّعذيب كل في محال اختصاصاتها وحدود ولاياتها..
على أن يتمَّ تأجيل كل الخلافات والنِّقاشات الدُّستوريَّة بما في ذلك الشَّطحات والشَّعوذات، لكل القوى والمذاهب والآراء الفكريَّة والفلسفيَّة والسَّياسيَّة ومدارس القانون والقانون الدُّستوري بما في ذلك للمُتفَيقهين من رموز وممثِّلي "مدرسة أقصى اليمين القانوني الفرنسيَّة" في تونس، على أن يتمَّ تأجيل وترحيل كل "القسم الدُّستوري" من السِّجال الوطني إلى نقاش هادئ رصين، ضمن المؤسَّسات الشَّرعيَّة والمشروعة للدَّولة، في كنف الهدوء، وبالأخص خارج سلطان دكتاتوريَّة التَّدابير الاستثنائيَّة، وبالمخصوص خارج تخريجات "لجنة تشخيص مصلحة النِّظام" وحِيلها الشَّرعيَّة وتحيُّلها الَّذي لن ينطلي عن أحد لا داخل تونس ولا خارجها، من خارج حلقات الهذيان الفوضوي، مهما نفخت فيها الصَّفحات الافتراضيَّة والكَرنكات الإعلاميَّة مدفوعة النَّزيهة والمتطوِّعة منها والخبيثة ومدفوعة الأجر منها لغاية في نفس أمين أو جاكوب..
فليمارس الرَّئيس سعيِّد صلاحيَّاته الدُّستوريَّة الَّتي نظَّمها الشَّعب صاحب السِّيادة على النَّحو المنصوص عليه في الدُّستور، وليس في هرطقات وهذيان "لجنة تشخيص مصلحة النِّظام" الَّتي تري أن تحلَّ مكان الشَّعب ومكان الدَّولة ومكان الدُّستور..
"رئيس الجمهوريَّة هو رئيس الدَّولة، ورمز وحدتها، يضمن استقلالها واستمراريَّتها، ويسهر على احترام الُّدستور" (الفصل 72 من الدُّستور)
"إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ، وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ"، صدق الله العظيم
اللَّهُمَّ هل بلَّغت، اللَّهُمَّ فاشهد،