لا لاستعمار "إيطالي ـ آ ـ فريكا" جديد لتعويض مآسي استعمار "فراس ـ آفريك" القديم..
في غياب أبرز القادة الأفارقة، شارك رئيس الجمهوريَّة رئيس الدَّولة قيس سعيِّد في القمَّة الأولى "إيطاليا ـ إفريقيا" يوم الإثنين 29 جانفي الجاري، ليكون تمثيل تونس في أعلى مستوى عكس أغلب الدُّول العربيَّة الإفريقيَّة وعكس أغلب قادة القارَّة..
وهي المشاركة الَّتي تتعارض مع الغياب الرِّئاسي عن أبرز القمم العربيَّة والإسلاميَّة، حين قرَّر الـتَّخلُّف قبلها عن قمَّة حركة عَدَم الانحياز وعن قمَّة الجنوب الكبير (مجموعة 77 زائد الصِّين) بكامبالا بأوغندا الشَّقيقة في ماي وقبلها أيضا عن القمَّة المزدوجة الطَّارئة العربيَّة والإسلاميَّة في نوفمبر الماضي للرَّد على العدوان الإسرائيلي على غزَّة، وأوفد نيابة عنه في المناسبات الثَّلاث أضعف تمثيل ديبلوماسي في شخص وزير الخارجيَّة..
ورغم الأهمِّيَّة الَّتي اكتستها مشاركة رئيس الدَّولة لقمَّة روما، فإنَّها لم تحظ بالإعداد الجيِّد، بل بدى رئيس الجمهورية في مداخلته اليتيمة خارج الموضوع جملة وتفصيلا..
حيث كانت الكلمة اليتيمة لرئيس الجمهوريَّة في حلقة النِّقاش الأولى فقط من ضمن الحلقات الخمس الَّتي احتضنتها القمَّة (التَّعاون في مجالات الاقتصاد والبنْيَة التَّحتيَّة، الأمن الغذائي، الأمن والانتقال الطَّاقي، التَّدريب المِهني والثَّقافة، الانتقال والهجرة والقضايا الأمنيَّة)، كانت خارج الموضوع، أطرى فيها بطريقة غير موفقة ومُثيرة للجدل وعزف فيها على "النَّغم الميلوني" بل والتَّغزُّل برئيسة مجلس وزراء حكومة أقصى اليمين الإيطالي، في موقف سياسي أقرب للتماهي والدعم المطلق في شكل "صك على بياض" مجاني..
حيث صرَّح: "ولكنَّنا اليوم في روما، نلتقي بفكر جديد بمبادرة حميدة من السَّيِّدة ميلوني ... وبمقاربات مختلفة (..) مستحضرين خيبات الماضي وآلامه ومستشرفين لمستقبل جديد يقوم على التعامل مع افريقيا لا بمنطق العربات المجرورة، ولكن بمنطق سياقة القاطرة معا (..) ، في الاتِّجاه الذي نرسمه معا (..)..." إلخ…
وكان قبلها بجُملة انتقد القمم والمؤتمرات: "تعدَّدت المؤتمرات ولكن في كل مناسبة تقريبا لا تنبثق عنها سوى الإعلانات مرَّة في هذه العاصمة ومرَّة في تلك (..)، كلٌّ (..) يريد أن يكون قاطرة، أمَّا الدُّول الافريقيَّة فعربات مجرورة مرَّة في هذا الاتِّجاه وأُخرى في ذاك."
وهو تصريح فيه كثير من الإهانة لتونس الَّتي احتضنت القمَّة اليابانيَّة الإفريقيَّة للتَّنمية (تيكاد في أوت 2022 برئاسة الرَّئيس قيس سعيِّد نفسه)؟؟؟
وهو إهانة أيضا لرئيس الجمهوريَّة قيس سعيِّد نفسه الرَّئيس المباشر للمنظَّمة الدُّوليَّة للفرنكوفونيَّة في مستوى القمَّة الثَّامن عشر بعد أن احتضنت بلانا القمَّة للمنظَّمة في نوفمبر 2022 في مدينة جربة؟؟؟
وحتَّى الفقرة الَّتي خصَّصها رئيس الجمهوريَّة لفلسطين، ورغم وجاهتها، إلَّا أنَّها جاءت بتصدير حَذْلَقي بالفرنسيَّة غير مفهوم لا بالإيطاليَّة ولا بالعربيَّ ولا بالانجليزيَّة، وبكثير من الاستطرادات التَّاريخيَّة المُمِلَّة الَّتي لا علاقة لها لا بفلسطين ولا بموضوع القمَّة ممَّا أضاع وقعها.. كما جاءت بدون الإشارة لأمر محكمة العدل الدُّوليَّة للدَّولة القائمة بالاحتلال بإيقاف أعمال الإبادة الجماعيَّة في غزَّة.. وبدون حتَّى الإشارة للموقف المُخزي لعدد من الدُّول الغربيَّة ومن بينها إيطاليا الَّتي قرَّرت المشاركة في الإبادة عبر إيقاف تمويلها لوكالة الأُمم المُـتَّحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيِّين أونروا..
كما جاء غياب الإشارة لفلسطين في استقبال المجاملة بمكتب رئيسة الوزراء ميلوني بمقر مجلس الشُّيوخ وكأنَّه تأكيد على أنَّ تضمين فلسطين في حلقة الحوار الأولى كان لملئ الفراغ والخزاء الَّذي تضمَّنه الخطاب..
وعلى سبيل الذِّكر، شارك ممثِّل الجزائر الشَّقيقة وزير الخارجيَّة عطَّاف في جلستيْ حوار من أصل خمسة، وقدَّم تصوُّرات بلاده للتَّعاون الجزائري الإفريقية والجزائري الإيطالي والإفريقي الإيطالي وبأرقام دقيقة ومشاريع ملموسة، ومن بينها المشروع الكبير لتهميش خط" أنبوب غاز المتوسِّط "ماتِّيِّي" الَّي يمر عبر التُّراب التُّونسي باتِّجاه صقلِّيَّة لفائدة الخط الجديد الَّذي ترغب في مدِّه الجزائر لنقل غاز خليج نيجيريا عبر النِّيجر والجزائر والمرور مباشرة لجزيرة سردينيا ومنها لجزيرة قرسقة لفرنيَّة وشمال البر الإيطالي ومنه إلى باقي الدُّول الأوروبِّية، لتصبح الجزائر وإيطاليا المعابر الرَّئيسية للغاز بين القارَّتين إفريقيا وأوروبا..
وبالرُّغم من أنَّ مشروع "خُطَّة ماتِّي" منشور على موقع رئاسة الحكومة الإيطاليَّة منذ مُدَّة وكنَّا ترجمناه ونشرناه لتعميم الفائدة بالعربيَّة والإيطاليَّة لتسهيل المُهمَة على الدِّيبلوماسيِّين الإعلاميِّين والمتابعين، إلَّا أنَّ تونس شاركت بدون إعداد، بل بكلمة إنشاء لغويَّة خارج الموضوع ألقاها رئيس الجمهوريَّة، وبدردشة مجاملة بدون ملفَّات مع رئيسة مجلس الوزراء ميلوني..
وهو في الحقيقة "خطَّة إيطاليَّة لإيطاليا"، بتوظيف موارد إفريقيا الطَّبيعيَّة والبشريَّة والمادِّيَّة، وبالحصول على موافقة القادة الأفارقة، لتعزيز موقع ومكانة إيطاليا وعُلويَّة يَدِها الطُّولى على قارَّتنا السَّمراء ووضعنا في موضع المتعلِّمين لدى الأساتذة الإيطاليِّين، ولا ترقى لفلسفة ولإرث الراحل الشهيد "إنريكو ماتيي" الذي اغتالته يد الغدر المشتبه في ارتباطها بالاستعمار الفرنسي الغاشم في حادث مرور مشبوه ومريب دفع فيه حياته ثمنا لاستقلال الجزائر وعموم قارتنا السَّمراء وللشراكة النِّدِّيَّة بين قارَّتينا القارَّة الفتيَّة الثَّريَّة إفريقيا والقارَّة العجوز الغنيَّة أوروبا..
فمجرَّد تصفُّح الخطَّة الإيطاليَّة في بنودها الخمس (التَّعليم والتَّدريب، الزِّراعة، الصِّحَّة، الطَّاقة، المياه) نقرأ: "إطلاق دورات مهنيَّة وتدريبيَّة جديدة تتماشى مع احتياجات سوق العمل والتَّعاون مع الشَّركات، بما في ذلك المشغِّلين على وجه الخصوص الإيطاليُّون واستغلال "النَّموذج الإيطالي" للمؤسَّسات الصَّغيرة والمتوسِّطة الحجم"، والتأكيد بوضوح على أنَّ "الهدف الاستراتيجي (للخطَّة) هو جعل إيطاليا مركزًا للطَّاقة"..
بل وجاء في وقاحة المقترح الإيطالي في تسريب لوكالة نوفا الإيطاليَّة للأنباء أنَّ مناب تونس من "الخُطَّة" هو تمويل ري ثمانية آلاف هكتار من الأراضي الفلاحيَّة بالمياه (المُلوَّثَة) المعالَجة؟؟؟
فاين الشَّراكة في كل هذا، وأين الغَزَل الرِّئاسي "بفكر جديد بمبادرة حميدة من السَّيِّدة ميلوني" و"بمقاربات مختلفة" (..) "مستحضرين خيبات الماضي وآلامه ومستشرفين لمستقبل جديد (..) يقوم على التَّعامل مع إفريقيا لا بمنطق العربات المجرورة، ولكن بمنطق سياقة القاطرة معا (..) ، في الاتِّجاه الَّذي نرسمه معا (..)"
فأين هي السِّياقة المشتركة للقاطرة؟؟؟ وأين هو الاتِّجاه المشترك؟؟؟
بل لم نتساءل حول وجاهة مشاركة تونس في مستوى رفيع، في حين اختارت ليبيا والمغرب ودجيبوتي المشاركة في مستوى رئيس الحكومة، واختارت الجزائر والسُّودان تخفيض مستوى المشاركة لمستوى وزير الخارجيَّة، واختارت مصر مستوى أقل بوزيرة التَّعاون الدُّولي، وقرَّرت الشَّقيقة الكُبرى جنوب إفريقيا تخفيض التَّمثيل إلى مساعد وزيرة العلاقات الخارجيَّة والتَّعاون الدُّولي والشَّقيقة الصُّغرى ناميبيا إلى مستوى سفيرها لدى روما..
بل لم نتساءل أصلا عن شعار القمَّة "إيطالي ـ آ ـ فريقيا" (ItaliAfrica) وكأنَّه يُحاكي المرحلة سيِّة الذِّكر "فراىس ـ آرفيك" (France-Afrique) وما حملته من مآسي وانقلابات وفساد وإفساد واستبداد لقارَّتنا السَّمراء..
بل ولم يشر رئيس الجمهوريَّة إلى العلاقات التَّاريخيَّة بين قرطاج مهد الحضارة الإنسانيَّة وروما مهد الحضارة الغربيَّة..
ولم يشر رئيس الجمهوريَّة للشَّهيد "إنريكو ماتِّيِّ" الَّذي قرَّرنا نَحْنُ "تونس والجزائر وإيطاليا" تخليد اسمه بتسمية "أنبوب المتوسِّط" الَّذي يربط غاز الصَّحراء الكبرى بمراكز التَّجميع بحاسي الرّمل بالجزائر حاليًّا بمعبر بئر العاتر على الحدود التُّونسيَّة باتِّجاه "الرَّأس الطَّيِّب" بين سيدي داود والهوَّاريَّة في الوطن القِبلي التُّونسي، ثمَّ يمخُر المتوسِّط في مستوى "مضيق "الرَّأس الطَّيِّب" / "مضيق قليبية" الَّذي تطلق عليه إيطاليا تسمية "مضيق صقلِّيَّة"، ليصل "مزارة الوالي" / "مزارة" بصقلِّيَّة التُّونسيَّة سابقا الإيطاليَّة حاليًّا..
الرَّأس الطَّيِّب" أبرز نقطة شمال القارَّة هي من تشغِّل المعامل وتُضيء بيوت ودروب إيطاليا وسلوفينيا، تماما كما كانت زيت الزَّيتونة التُّونسي يُضيء بيوت وردوب روما وإيطاليا وأوروبا، تماما كما كانت أنوار الزَّيتونة والقيروان تُضيء عقول وجامعات إيطاليا وأوروبا..
كلُّ هاته الجوانب كان على رئيس الدِّيبلوماسيَّة وزير الخارجيَّة (الوزير عمَّار) وعلى المستشار الدِّيبلوماسي لرئيس الجمهوريَّة (المُلحق الحجَّام لكل المهام) إعدادها، ووضعها على طاولة رئيس الجمهوريَّة، حتَّى تكون مشاركة تونس في أعلى مستوى شكلا ومضمونا، مهما كان من يمثِّلُنا..
وكلُّ هدا غاب على رئيس الجمهوريَّة الَّذي لم يشأ أن يكون حفيد حنَّبعل ولا أسد بن فُرات ولا جوهر الصِّقلِّي، في مشاركته الباهتة للغَزَل في غير محلِّه لرئيسة حكومة أقصى اليمين الإيطالي حفيدة الفاشي موسوليني..
فكانت مشاركته الفُجائيَّة باسم تونس في روما بدون إعلام مسبق، وكأنَّها زيارة فجائيَّة داخليَّة، فكانت زيارة باهتة دون إعداد مسبق..
ونُكرِّرها مرَّة أُخرى: "الرَّأس الطَّيِّب" أبرز نقطة شمال القارَّة هي من تشغِّل المعامل وتُضيء بيوت ودروب إيطاليا وسلوفينيا، تماما كما كانت زيت الزَّيتونة التُّونسي يُضيء بيوت وردوب روما وإيطاليا وأوروبا، تماما كما كانت أنوار الزَّيتونة والقيروان تُضيء عقول وجامعات إيطاليا وأوروبا..
وفي الأخير وليعلم "المَلَأْ"، في روما وغيرها، وأمس واليوم وغدا، أنَّ قرطاج لَا ولَمْ ولَنْ تنحني لروما، قرطاج لَا ولَمْ ولَنْ تنحني لروما، قرطاج لَا ولَمْ ولَنْ تنحني لروما..