فضيحة دولة لقضاء "الوظيفة" في قضيَّة محاكمة قتلة الشَّهيد الصَّديق شُكري بلعيد رحمه الله.. في ضرب لمقوِّمات المنطق القانوني السَّليم وفي خرق فاضح لمبادئ وضمانات المحاكمة العادلة وفي اعتداء صارخ على استقلاليَّة القضاء وازدراء بنواميس المحاكم، ممثِّل النِّيابة العموميَّة (الإدِّعاء) ينتصب مكان رئيس وهيئة المحكمة ويتلو عوضا عنها ملخَّص الأحكام بالجُملة "شِيلَة بِيلَة" ودون تفصيل، في ضرب لمبدأ المسؤوليَّة والعقوبة الفرديَّة؟؟؟
خاصَّة وأنَّ الأحكام الَّتي صرَّحت بها النِّيابة، بدل هيئة المحكمة، تتضمَّن أربعة أحكام بالإعدام، لا يمكن بأيَّة حال التَّساهل والاستسهال فيها ولا خرق الإجرءات الصَّارمة والمعاير الوطنيَّة والدُّوليَّة الَّتي تضبطها وتُحيطها، بل وتفرض التَّوقُّف عن تنفيذها بموجب الالتزامات الرَّسميَّة للدَّولة وتدعو لإلغاءها من منظور حقوقي حسب التَّوصيات الأمميَّة وبموجب البروتوكول الاختياري الثَّاني للعهد الدُّولي للحقوق المدنيَّة والسِّياسيَّة؟؟؟
في حين تفترض أصول وإجراءات المحاكمة العادلة انتهاء دور النِّيابة العموميَّة / القضاء الواقف بمجرَّد تقديم دفوعاتها وتترك المكان لسلطان هيئة المحكمة / القضاء الجالس لا سُلطان على قضائه غير القانون..
وفي حين تنصُّ الإجراءات على تلاوة الحكم والتَّصريح به من طرف رئيس الهيئة القضائية الجالسة، بحضور المَتَّهمين ولسان الدِّفاع والادِّعاء، وفي جلسة علنيَّة، في كنف احترام مبدأ المُواجهة والعلنيَّة..
فالقضاء الواقف يمثِّل الادِّعاء وهو طرف في القضيَّة، ولا يكتمل مبدأ المواجهة إلَّا بحضور ومشاركة ومرافعة لسان الدِّفاع عن كل أطراف النِّزاع، لتخلو بعد ذلك المحكمة إلى الحُجرة المُقدَّسة بدون مشاركة الادِّعاء ولا الدِّفاع، لتحتكم لوُجدان قُضاتها الطَّاهر بدون تأثيرات ولا ملوِّثات، ولتحكم بما استقرَّ في وُجدانها الطَّاهر وتبثَّ في النِّزاع قانونا وفعلا، وتُصدر وتتلوَ حُكمها باسم الشَّعب..
ولا يمكن لأحد أيًّا من كان أن يحلَّ محلَّ الهيئة القضائيَّ، لا الادِّعاء ولا الدِّفاع، في التصَّريح بالحُكم، وخاصَّة الادِّعاء الََّذي يمثِّل القضاء الواقف وعادة ما يكون مع الواقف في غياب الدِّيمقراطيَّة وفي غياب احترام ضمانات المُحاكمة العادلة..
وحتَّى إن "جَلس" ممثِّل النِّيابة العموميَّة على كرسي أمام مكتبة المحكمة ووراءه رفوف أحكامها وارتدى رطبة عُنق بدل لباس الإدِّعاء ودَهَن الوجه والشَّعر بما تيسَّر من دُهون وغُبارو الزِّينة فهو يبقى يمثِّل "القضاء الواقف".. قف، انتهى.
كما تضمَّن مسلس "التَّصريح"، الَّذي بثَّته القناة العموميَّة الوطنيَّة الأولى في ساعة السَّحور عند الفحجر، شروحات وتفسيرات لمجموعة من"المُفسِّرين" على هامش الحُكم من طرف أحد أطراف النِّزاع بتقديم منطق قانوني أعوج لا يستقيم بتقسيم القضيَّة إلى شقَّين منفصلين "التَّنفيذ" و"التَّخطيط"؟؟؟ وهو منطق لا يستقيم، فلا يمكن فصل الوفاق الإجرامي بين مختلف مستويات المسؤوليَّة الجنائيَّة تخطيطا وأمرا وتنفيذا ومشاركة وتسهيلا وحتَّى غضّ النَّظر وعدم الإشعار لإيقاف الجريمة.. فكلُّها حلقات لجريمة واحدة لا يستقيم منطقا وقانونا وواقعا فصلها..
فكفى تجارة بقضيَّة الشَّهيد الصَّديق شُكري بلعيد، الَّتي وظَّفها النِّظام السِّياسي منذ الجريمة النَّكراء وباختلاف الفاعلين، بل وتمَّ استعمالها لشرعنة التَّعدِّي على استقلاليَّة القضاء وحل المجلس الأعلى للقضاء والزَّج بقاضي التَّحقيق في السِّجن وإقالة ما يربو عن ستين قاضيا بدون إجراءات تأديبيَّة ولا احتارم للمعايير الوطنيَّة والدُّوليَّة لاستقلاليَّة القُضاة..
خُروقات بعضها فوق بعض، أصوليَّة وإجرائيَّة، وتداخلت مع معارك سياسيَّة ليس القضاء ساحتها لتوظيف القضاء وبطريقة فجَّة غير لائقة في حسم النِّزاعات والخلافات السِّياسيَّة والإيديولوجيَّة..
المسؤوليَّة السِّياسيَّة والأخلاقيَّة في الإخفاق في منع جريمة الاغتيال بل والانفلات الكلامي والفجور في الخصومة تتحمَّل جزء كبير منه الحكومة المباشرة حين الواقعة حكومة التّرويكا الأولى.. وكان عليها أن تقيس المُصاب الجلل وأن يستقيل على الأقل وزيراها للدَّاخليَّة وللعدل كحد ادنى لتحمُّل المسؤوليَّة السِّياسيَّة والأخلاقيَّة، هو ما قلناه في إبَّانه بدون مواربة في الإعلام وفي موكب في تأبين الفقيد رحمه الله..
واقترحنا واقترح غيرنا في الإبَّان الاستفادة بمحقِّقين دوليِّين مشهود لهم بالكفاءة في رصد وتجميع واستنطاق الأدلَّة الجنائيَّة وفي تفكيك جرائم الاغتيال السِّياسي ومن دول شقيقة وصديقة ليست لها علاقة استعماريَّة ببلادنا وتحت إمرة القضاء التُّونسي وفي كنف الاستقلاليَّة..
ولكنَّ القائمين على شؤون الدَّولة حينها، من داخل مؤسَّسات الدَّولة وخارجها، أعماهم مَرَض زواج الأقارب فيما بينهم وأعوزتهم البصيرة الثَّاقبة لفهم ما يحاك لتونس وديمقراطيَّتها وثورتها داخليًّا وخارجيًّا، وأعاقهم قصر نظر من استوزروهم واستوشروهم من قصار النَّظر وضعيفي الكفاءة والإحساس بالمسؤوليَّة ورفعة الأخلاق والولاء للوطن دون سواه، بل عدمييها لبعضهم، وسلَّموهم أمانة تسيير الدَّولة ومصالح البلاد ورقاب العباد من دونما كبير كفاءة ورؤية واستشراف وحِكمة تُذكر..
أمَّا محاولات التَّدخُّل في القضاء بالتَّعسُّف وتوظيفه لتوجيه المسؤوليَّة الجزائيَّة ضدَّ هذا الطَّرف أو ذاك، بدون أدلَّة ولا حجج ولا براهين جنائيَّة بمعايير المُحاكمة العادلة، والتَّشفِّي في أبرز قضاة التَّحقيق في قطب مكافحة الإرهاب القاضي الفاضل الرَّئيس سي البشير العكرمي فرَّج الله كربته ليستقيم تركيب سيناريو الحبكة ولإشفاء غليل قضاة الفساد الَّذين فكَّك شبكاتهم ذات القاضي، فهو أمر غير مقبول ولا يمتُّ لأصول الدِّفاع بصلة، بل مكانُه حًجرة سٌقراط بكلِّيَّة الحقوق بالمركَّب الجامعي بالعاصمة وغيرها من منصَّات الصِّراع الإيد,يولوجي الطُّلَّابي المُبتدأ في سبعينات وثمانينات القرن الماضي..
فكفى، كفى، كفى.. شكري أرقى من هذا ودَمُه يحتاج مسؤوليَّة أرقى من هذيان الكرانكة وليِّ أذرع القضاء والحقيقة القضائيَّة وترذيل القضاء التُّونسي وتشويه سُمعته داخليًّا وخارجيَّا وهزِّ ثقة المُتقاضين في العدالة، وهو أخطر مقتل يضرب الاندماج الوطني والاجتماع البشري ويضرب مقوِّمات السِّلم الأهلي والعيش المشترك.