بإنحناء تونسي مُستكين مُهين و"قهقهة مِيلُونِيَّة" غير لائقة، ميولني تثأر في قرطاج من حنَّبعل.. زيارة ناجحة إيطاليًّا فاشلة تونسيًّا.. اختارت رئيسة وزارء حكومة اقصى اليمين الإيطالي جورجيا ميلوني حفيدة أفكار موسوليني ومشروعه الفاشستي، اختارت تاريخ زيارتها لتونس "عن عجل" لتُباغت مستضيفها برمزيَّة التَّاريخ..
فصادفت زيارتها "المستعجلة" الذِّكرى المئاتين وأربعين بعد الألفين (2240) شهرا بشهر وتقريبا يوما بيوم بعد إلحاق القائد القرطاجنِّي حنَّبَعْل ("هَانِي ـ بَعْل بنْ حَمِلْقَار برقا") هزيمة نكراء بجيوش روما ومباغتتها وهزيمتها بفنون الحرب القرطاجنِّية وإبادة جيوش القنصل فالينوس بالكامل، في معركة بحيرة تراسمان في جوان 217 قبل الميلاد، بعد أن اجتاز بإبهار كبير على ظهور الفيلة جبال الأطلس الثَّلجيَّة المتجمِّدة في الحرب البونيقيَّة الثَّانية الَّتي أذعن فيها المتوسِّط لسلطة قرطاج سادة المتوسِّط..
وللأسف، لم يقرأ الرَّئيس قيس سعيِّد ساكن قرطاج المباشر ولا مستشاروه رمزيَّة التَّاريخ، وقَبِلَ أن "يدعو" الإيطاليَّة حفيدة الفاشي موسوليني وحاملة فكره الفاشستي أو بالأحرى يقبل رغبتها في الزِّيراة عن عجل، لتُهين قرطاج في ذكرى إحدى أبرز انتصاراتنا في التَّاريخ على روما..
وللأسف الشَّديد، أساء رئيس الجمهوريَّة لنفسه ولتونس بدعوة رئيسة وزراء حكومة أقصى اليمين الإيطالي وريثة موسولوني بزيارة تونس.. وللأسف الشَّديد، وبالإضافة للرَّمزيَّة التَّاريخيَّة فشل الجانب التُّونسي ديبلوماسيًّا وسياسيًّا واتِّصاليًّا في تنظيم الزِّيارة والاستفادة منها..
فعلى مستوى الشَّكل، كان على رئيس الجمهوريَّة احترام مقامه السَّامي والتَّصرُّف كرئيس للجمهوريَّة رئيس للدَّولة التُّونسيَّة والاكتفاء بدعوة نظيره الإيطالي سارجيو ماتاريلَّا الفقيه الدُّستوري القاضي السَّابق بالمحكمة الدُّستوريَّة الإيطاليَّة، الَّي كان دعاه واستقبله سابقا في زيارة دولة إلى روما قبل إعلان التَّدابير الاستثنائية التَّوسُّعيَّة المثيرة للجدل في 25 جويلية وتحت سلطان دستور المجلس الوطني التَّأسيسي لسنة 2014 في زيارة دولة ناجحة منذ ثلاث سنوات يوما بيوم تقريبا بتاريخ 16 جوان 2021..
اليوم، بدعوة رئيسة الوزراء ميلوني يحطُّ الرَّئيس قيس سعيِّد من قيمته ومن قيمة الدَّولة التونسية ليتمَّ التَّعامل معه لا على المستوى الرِّئاسي بل على المستوى الحكومي.. وهو ما لم تفوِّته ميلوني الَّتي أشارت بكل صلف في كلمتها للإعلام أنَّها ستستقبل الرَّئيس سعيِّد في روما.. ممَّا يعني بروتوكليًّا إهانة رئيس الجمهوريَّة والتعامل معه كنظير لها وليس كنظير لرئيس جمهوريَّتها..
وعلى مستوى الشَّكل أيضا بدت الدَّولة التُّونسيَّة غير موحَّدة، حيث لم تظهر رئيسة وزراء حكومة الرَّئيس للتَّدابير الاستثنائيَّة مع رئيس الجمهوريَّة، بل اكتفت باستقبال وتوديع نظيرتها الإيطاليَّة وتنظيم جلسة هدايا و"مغازلة فولكلوريَّة" تخلَّلتها دردشة عمل معها في القصبة، وبدون حضور الوزراء المعنيين بالملفَّات الَّتي ذكر بلاغ القصبة الخشبي أنَّهما تناولاهما..
وعلى مستور الشَّكل أيضا، بدا رئيس الجمهوريَّة وحيدا تائها في الاستقبال وفي جلسة العمل و"دردشة القهوة المطوَّلة" بتعبير الإعلام الإيطالي. فلم يرافقه غير وزير التَّدابير الاستثنائيَّة للشُّؤون الخارجيَّة والهجرة والتُّونسيِّين في الخارج والفريق طبيب عسكري طبيبه الخاص ومستشاره الرَّئيس برتبة وزير ومستشاره الكاتب القار لمجلس الأمن القومي والملحق بالدَّائرة الدِّيبلوماسيَّة الحجَّام لكل المهام القائمَّ بهم
مدير الدِّيوان والنَّطاقة الرَّسميَّة "عُرفي" بدون تسمية ولا تكليف رسمي.. في حين غاب وزراء حكومة الرَّئيس للتَّدابير الاستثنائيَّة لشؤون رئاسة الحكومة وللماليَّة وللاقتصاد وللدَّاخليَّة.. وفي حين اكتفت رئيس الوزراء الإيطاليَّة بسفير بلادها ومستشارها الدِّيبلوماسي وضابط عسكري..
بما يوحي بأنَّ المقابلة تمَّت عن عجل لتناول مسائل أمنيَّة في المقام الأوَّل تتعلَّق بالهجرة.. وهو ما لمَّحت له الإيطاليَّة بالحديث عن صفاقس الَّتي انطلق منها قوارب الهجرة السِّرِّيَّة، في إشارة إلى ما أكَّده الوزير الإيطالي للدَّاخليَّة سابقا من أنَّه اتَّفق مع نظيره التُّونسي على نشر عناصر من المخابرات الإيطاليَّة في صفاقس لتتبُّع شبكات الهجرة..
وعلى المستوى التَّواصلي، بدت السُّلطات التُّونسيَّة تائهة للأسف وغير متمسكة بالمبادرة، رغم أنَّها صاحبة الدَّعوة للزِّيارة "المستعجلة"، حسب بلغ رئاسة الجمهوريَّة..
واستبق الإعلام الإيطالي تغطية الزِّيارة ونشر الفيديو المُهين لرئيس الجمهوريَّة قيس سعيِّد، صوتا وصورة، وهو يستقبل في يهو قرطاج وزيرة روما بانحناء لم تشهد مثيلا له العلاقات التَّاريخيَّة بين البلدين، وبقهقهة ميلونيَّة ماكرة.. ليبقى الكَلِّمُ الرِّئاسي الوحيد لزيارة وزيرة روما لقرطاج وبفرنسيَّة مُتَصَنَّعَة مُرْهَقَة لا لزوم لها هو: " أنا سَعِيدٌ (وليس سْعَيِّدْ) جِدًّا بأن أتحادث معكِ في مشاكلنا.. وأصدحُ بها عاليا (وأقولها عاليا): أنتِ إمرأةٌ تقولُ بصوت عالٍ وقويّ ما يفكِّر فيه الآخرون في صمت"..
وحتَّى الفيديو المُمنتَج الَّذي نشرته مصالح رئاسة الجمهوريَّة بعد مغادرة الضَّيفة مطار تونس قرطاج ووصولها روما، لم ينشر كلام رئيس الدَّولة واكتفى بصور متحرِّكة مع موسيقى مرافقة وبترجمة النُقطة الإعلاميَّة للإيطاليَّة في بهو قرطاج..
أمَّا على مستوى المضمون، فإنَّ تونس لم تربح شيئا من زيارة ميلوني، غير إعلانات عامَّة فضفافة..
وحتَّى مقترح تنظيم مؤتمر دولي للهجرة يضمُّ دول جنوب وشمال المتوسِّط والسَّاحل والصَّحراء الَّذي تبنَّاه سابقا رئيس الجمهورية وقدَّمته الدِّعاية على أنَّه مقترح تونس، فقد سطت عليه ميولني وحدَّدت مكانه في روما وليس في قرطاج (؟؟؟) وحدَّدت تصوُّرها له بتوسيعه لدعوة دول الخليج العربي والَّتي ترفض أصلا الحديث عن "هجرة" لديها وتكتفي بتوصيف "العمالة الوافدة بعقود عمل مؤقَّتة"..
أمَّا سياسيًّا واقتصاديًّا، فقد كرَّرت السَّيِّدة ميلوني ما يقوله ويؤكِّده العالم اجمع لتونس بضرورة التَّوجُّه لصندوق النَّقد الدُّولي..
أمَّا إقليميًّا، فقد حرصت الإيطاليَّة على عزل تونس عن مُحيطها ولن تذكر أية كلمة حول الشَّراكة الثلاثية التُّونسيَّة الجزائريَّة الإيطاليَّة الَّتي يربطها أنبوب غاز المتوسط أنركيو ماتِّيو، ولا الشَّراكة الثُّلاثيَّة التونسية الإفريقيَّة الإيطاليَّة ولا "مخطَّط إنريكو ماتِّيو" (مخطَّط مارشال الإيطالي للتَّنمية في إفريقيا) الَّذي كانت أشارت إليه في زيارتها لإيطاليا بعد زيارة الرَّئيس تبُّون لروما وزيارة الرَّئيس ماتاريلًّا للجزائر..
استراتيجيًّا، خسرت تونس بالتَّموقع رسميًّا في خندق تحالف حكومات أقصى اليمين العنصري الأورومتوسِّطي..
حيث لا يخفى على المتابع الفَطِن الصِّراع القوي داخل أوروبا بين أحزاب اليسار الاجتماعي والخُضر (الدِّيمقراطيَّة الاجتماعيَّة) واليمين اللِّيبرالي الواسع (الدِّيمقراطيَّة المسيحيَّة) من جهة وأحزاب أقصى اليمين العنصري الشوفيني من جهة أخرى.. فإذ تسيطر على الدِّيمقراطيَّة الاجتماعيَّة والدِّيمقراطيَّة المسيحيَّة وحلفائهما على أغلب حكومات دول الاتِّحاد الأوروبي، برز أقصى اليمين العنصري كقوَّة سياسيَّة صاعدة ولكنَّها لم تحكم بعد من الدُّول الأوروبِّيَّة الكُبرى جغرافيًّا وديمغرافيًّا واقتصاديَّة والرَّئيسيَّة سياسيًّا إلَّا إيطاليا.. ورهان ميلوني إيطاليًّا وأوروبِّيًّا هو إقناع الرأي العام بأنَّها قادرة على الإيفاء بوعودها الانتخابيَّة في إيقاف الهجرة من دول جنوب المتوسِّط وأساسا قارب الهجرة السِّرِّيَّة المنطلقة من السَّواحل التُّونسيَّة..
خسر الرَّئيس قيس سعيِّد وخسرت معه تونس بالزِّيارة "المستعجلة"، خسارة سياسيًّة وديبلوماسية واتِّصاليًّة واقتصاديًّة وإقليميًّة واستراتيجيًّة..
ولا مناص لنا في هاته اللَّيلة النَّكراء من استحضار بطولات حنَّبعل قائد جيوش قرطاج سيِّدة المتوسِّط: "إذا لم نجد طريق النَّجاح، فعلينا ان نبتكره".. بعيدا عن قهقة ومكر ووصاية جورجينا وريثة موسوليني.. "إنَّ النَّجاح ليس دائماً وليد الأفكار الثَّوريَّة، فكثيراً ما يكون مفتاحه فكرة بسيطة".. "إنَّ النَّجاح هو محصلة اجتهادات صغيرة تتراكم يوماً بعد يوم".. "إذا لم نجد طريق النَّجاح، فعلينا ان نبتكره"..