لافاييت ... "أقسى السجون وأمرّها تلك التي لا جدران لها"

Photo

يُعدّ حي لافاييت من أعرق الأحياء في تونس العاصمة، ومازال معماره الفرنسي باقيا على حاله منذ الاستعمار الفرنسي. يشقّه أحد أهمّ أنهج تونس العاصمة نهج فلسطين الموازي لشارع الحرية والذي يربط بين ساحتي فلسطين وإفريقيا وتوجد به أهم سوق تجاري بالعاصمة.

رواية لافاييت للكاتبة هند الزيادي تروي حكايات لمجموعة من الفتيات – أمينة، فاطمة، وفاء، راضية، يُسر. وفي الحقيقة هي حكاية مركّبة تتشابك فصولها لتلتقي داخل "صندوق أسود"، غرفة وحيدة فوق سطح عمارة مُهترئة بنهج الكويت في حي لافاييت.

انتقلت بطلات الرواية إلى العاصمة هروبا من ضغط المُجتمع وقلّة ذات اليد والعطالة التي فرضها وضع اقتصادي واجتماعي مأزوم. هربن من مجتمع ريفي ذكوري للاحتماء بــ"لافاييت"، هربن من الفقر وألم التهميش ليرتمين في أحضان الفرجاني وأبو فادي ومادام وفاء.

بعد الثورة ضنّت شخصيات الرواية أنّ الزمن أنصفهنّ وأنّ الثورة جاءت لتكسر قيود الفقر وتُمكّنهنّ من تحقيق أحلامهنّ البسيطة - حياة كريمة في أجواء بريئة من الفساد والمحسوبية والجشع. رفعن شعار "ارحل" في وجه الديكتاتورية وغلاء المعيشة والبطالة وخاصة في وجه العصابات التي كانت تنهش أجسادهنّ وتمرّغ خبزهنّ في الهمّ…

لكن سرعان ما تبخّر الحلم وتحطّمت آمالهنّ على صخر الواقع السياسي، حيث تضاعف الجشع وانتشر الفساد وارتفعت الأسعار، واضطررن إلى أكل العشب الممرّغ بالدم القاني.

لن أتوقّف كثيرا عند تفاصيل الرواية التي قامت الكاتبة بسردها بدقّة وإتقان، ونجحت هند الزيادي أيضا في توصيف مرحلة ما بعد الثورة وإن أضفت عليها كثيرا من السوداوية والتشاؤم. كما نحت الكاتبة نحو البناء الدرامي لتشويق القارئ وشدّه لمتابعة أحداث الرواية.

بينما سأتوقّف عند الأبعاد غير المكشوفة في رواية "لافاييت"، تلك النوازع والتجاذبات داخل نفسيات مُعقّدة، حيث ثمّة تناقض صارخ في ظاهر هذه الشخصيات: من وجه حالمة وطموحة ومُحلّقة/ وخائفة وعاجزة ومُنهارة من وجه آخر !

ويتعزّز هذا التناقض حين تعمل الكاتبة على إبراز سمات الطموح والتحليق لدى بطلات الرواية وفي ذات الوقت تُحمّل الآخر (الذكر) مسؤولية السقوط مُستخدمة عامل الخوف والفقر والحاجة لتبرير ذاك السقوط.

لا شكّ أنّ حالة بطلات الرواية، في هذا الشأن، ليست مُطابقة تمام المُطابقة لأحوال العديد من الفتيات الأخريات اللّواتي ينسحب عليهنّ ظاهر المشهد الذي نسجته الكاتبة.

وإن دافعت الكاتبة عن بطلاتها مُخترعة عدوّا مُشتركا: الثورة والفساد والسياسيين والمُتديّنين وتجّار الأوطان..الخ، لتُحمّله مسؤولية عذاباتهنّ وسقوطهنّ في فخّ "عصابات الفساد" و"المُتاجرين بالرقيق الأبيض"، غير أنّها لم تنجح (وإن اجتهدت) في إخفاء ضعف إرادتهنّ وعجزهنّ على مُقاومة إغراء المال والسقوط في فخّ النزوات العابرة.

هؤلاء الفتيات (بطلات الرواية) ينتمين أصلا وابتداءً إلى ثقافة ومُجتمع إسلامي، وهنّ يُمثّلن وجها من وجوه ما يُمكن تسميته بــ"الدولة الوطنية"، فبسبب ضيق فضاءات قُرَاهنّ وقلّة فِطن أهلهنّ وفساد الأنظمة السياسية والاجتماعية لأوطانهنّ بتن إحدى ظواهر الفضاءات الجديدة (لافاييت).

وبكلّ تأكيد، هذا لا يعني أنّهن مُذنبات أو مُنحرفات ولا يعني أنّنا بصدد تقييم أحوالهنّ الأخلاقية، نقضا أو اثباتا، فتلك أحكام لا شأن لنا بها في ما نحن بصدده، وإنّما المقصود أنّ صفة "مأساة" المُقترنة هنا بفعل "البحث عن الحرية والخلاص" و"الأمل في غد أفضل"، تعني أمرا واحدا فقط، هو أنّ الربط بين الصورة "المأساوية" التي رسمتها الكاتبة والفعل المُتفائل الذي يمثّله "البحث عن الخلاص" هو من قبيل التبرير لا من قبيل العلاقة. فسقوطهنّ في فخاخ الفساد لا يُمكن أن يكون ذو علاقة بإرادة البحث عن الخلاص أو الأمل في غد أفضل.

قد تكون الآراء والأفكار، حول ما آلت إليه حالة الفتيات، سديدة وقد تكون زائفة، قد نردّدها في العلن والسر وقد نُخرجها إلى دائرة الشفافية والضوء كما فعلت مؤلّفة رواية لافاييت، لكن دور القارئ التحقّق من دلالاتها ومسوغاتها ومن قيمتها أيضا.

تشرّع هذه الرواية الباب واسعا أمام جملة من القضايا التي تثيرها بعض الظواهر التي نراها عيانا وتعترضنا يوميا في الشارع وفي المكتب وفي السوق… قضايا بعضها يتعلّق بالظلم الاجتماعي واللاّعدالة وبعضها الآخر بالهيمنة الذكورية وبثقافة المُجتمع.

ما الذي يثوي خلف هذا الغضب، الهَجوم، من ثورة يُقال انّها خانت أصحابها وتنكّرت لمبادئها وشعاراتها؟ وما علّة هذا التشاؤم المُفرط الذي يستبدّ بالكاتبة والذي عبّرت عنه عن لسان بطلاتها؟ هل هو الجنوح للتشاؤم والعنف الوجداني في مُقاربة مآلات الثورة أم هي إصابة في "العقل الوجداني" مبدؤها "صدمات الواقع" و"ظلم المُجتمع" وسوء إدارتها السياسية خاصة في مرحلة ما بعد الثورة؟ أم هو تعسّف الذكور والعطب القار في بنيتهم النفسية والأخلاقية؟ أم هو "النمط المجتمعي" النصف حداثي نصف تقليدي وعقم الرؤية لدى أغلب الأحزاب السياسية بيمينها ويسارها، ومضادتها للتغيير ونفورها من الحرية؟ أم هي غفلة قوى الثورة عن القضايا الحقيقية وانخراطهم في معارك واهمة؟

تلك أسئلة وتساؤلات جوهرية، لم تطرحها هند الزيادي بشكل مُباشر، وقد لا يملك أغلبنا القدرة والشجاعة ليقدّم إجابات شافية ووافية، لكن بكلّ تأكيد، إثارتها وإجالة النظر المدقّق في مصادرها ومظانها ودلالاتها، يأذن بإدراك المضامين البعيدة لمُشكل "اللاّعدالة" بجميع تمظهراته السياسية والاجتماعية والجندرية.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات