حين نقرأ خبر "الحاوية الخاوية" والسلاح المُخصّص للأطفال و"البلجيكي" البريء، وفي نفس اللّحظة نقرأ ونسمع سجالات أشباه السياسيين حول غلق باتيندة حزب وفتح باتيندة حزب موازي، وحين نشاهد كيف يغتصب الإعلام عقول البسطاء وحتى الأذكياء وفي المُقابل يتناقر الأخوة الأعداء حول مآل "هيكل" أو جواز قراءة الفاتحة على روح "بطرس"، وحين نُعاين كيف تُستلب الأوطان ونحن في حالة تكابش حول بطالة "حمّه" وحكمة "راشد" وتنطّع "المنصف" … وحين يُقرّ جميعنا بحجم المصيبة التي تنتظرنا وجميعنا مشغول بالبحث في دم البعوضة وشطحات "جلّول" ورقصات "نور شيبة" وترهدين "بيّة" وغباء "جعفر"… وحين تُخبرنا قارئة الفنجان بأنّ الأمر جلل ونحن نتلهّى بمشاهدة مسلسل حريم السلطان للمرّة العاشرة، ومسلسل شوف لي حلّ للمرّة ألف، ونضحك لمواقف "المنجي" التافهة، وننتظر موعد كشف ستر الولايا مع "علاء"، وموعد الإذلال المبرمج مع صندوق "سامي" … أتأكّد أنّ الأمر جلل الأمر جلل الأمر جلل !!!!
هذه التجلّيات تطرح أسئلة عديدة على الحسّ المُشترك لدى خاصة الناس قبل عامتهم، لماذا هذا العقل الوجداني الغاضب لدى أغلبنا؟ لماذا هذا الزعم بامتلاك الحقيقة وأنّ غيرنا على خطأ؟ أليس ثمّة عقلاء قادرين على توجيه اهتمامات الناس نحو قضايا الوطن ومصائره دون استيهام الحقيقة ولا ادّعاء الصواب؟
السؤال ذو معنى، بكلّ تأكيد. والإجابة عليه ليست عسيرة المنال. فقضايا الوطن عند "النخب" السياسية وعند "النخب" المُثقّفة، على حدّ السواء، لا تتجاوز أن تكون إحدى "الفواعل" لممارساتهم السياسية والثقافية، وهي ليست في قلب اهتماماتهم ولا تمثّل بوصلة أساسية هادية لفعلهم. فهؤلاء النخب بمختلف مشاربهم الأيديولوجية ينتمون، أصلا وابتداءً، إلى مدارس مُتباينة عربية وغربية، وهم يُمثّلون وجوها مُختلفة لأجندات أجنبية - قومية وإسلامية وحداثية واستعمارية مطبّعة … -.
ذلك أنّ هؤلاء السياسيين والمُثقّفين أثناء حكم المخلوع ومطالع مرحلة ما بعد الثورة، وبفضل الجمعيات والمنظّمات غير الحكومية العربية والأممية ومراكز التكوين السياسي ذات الأجندات المُتباينة، وبسبب تواجد عدد من هؤلاء الفاعلين خارج فضاء الوطن طوال العقود الفارطة، بات "الوطن"، بالنسبة لأغلبهم، يحمل دلالات ومعانٍ تقبع في مكان قَصيّ من شعار "الشعب يريد".
لعلّه ضيق فضاء الوطن الذي أصبح لا يحتوي "طموحاتهم"، أو قلّة فطنتهم السياسية والاجتماعية، أو ربما فسادهم وضعف شعورهم بالمسؤولية واحتقارهم للخير العام. أو لعلّه التقارب والضغط الزماني والمكاني الذي فرضته الليبرالية الجديدة والعولمة، فأصبح الوطن متّصلا أشدّ الاتّصال ومتواصلا أوثق التواصل مع بقية أجزاء العالم، وعلى وجه الخصوص مع تلك التي تمثّل مراكز القوة والانتشار السياسي والتقني والعلمي، في أوربا وفي أمريكا وفي بقية مربّعات الوطن العربي.
في مثل هذا الوضع، حيث لا تستند الأحزاب في ممارستها السياسية على سلطة القيم والمبادئ، ولا على فكرة وحدة الأمّة ومركزية القضية الفلسطينية، مكتفية باستعمال سلطة البراغماتية والمصلحة السياسية الحزبية الضيقة. وهكذا نلاحظ في الحالة التونسية، أنّ الأحزاب السياسية تبدو كما لو كانت مرادفا للدولة ونقيضا للمجتمع المدني، في حين أنّه يُفترض بها أن تكون مرادفا للمجتمع السياسي وسندا للمجتمع المدني حتى تمتلك قوة هائلة تجعلها لا تكتفي بمراقبة الأداء السياسي للسلطة السياسية السائدة بل تتعدّى ذلك إلى مراقبة أداء بقية مؤسّسات الدولة - التشريعية والقضائية- في أدقّ التفاصيل عند اللزوم.
إذن، وقد حُرم المجتمع في أثناء التحرّكات الكبرى من أي سند سياسي - حزبي، حيث بدت أحزاب "المعارضة" بسبب تشرذمها خائرة ضعيفة، تحطّمت في كلّ مرّة مقاومته (المجتمع) وتداعت تحرّكاته بسهولة تثير الاستغراب والاندهاش، على نحو ما حدث في تحرّكات القصرين الأخيرة.
لذلك فإنّ البحث عن استراتيجية ملائمة للتغيير الاجتماعي، ترتكز على تجميع القوى الممكنة كلّها، وعلى قوّة الإرادة وسرعة المبادرة، دون التعويل على الأحزاب السياسية التقليدية، بات أمرا ضروريا وملحّا لتحقيق الأهداف التي اختزلتها شعارات ثورة سبعطاش - أربعطاش: "الكرامة والحرية والعدالة"، والأكيد أنّ هذا لن يتحقّق إلاّ بتفكيك أجهزة النظام السابق (الحالي) وبناء ممارسة سياسية مُّغايرة لما هي عليه اليوم.
وعليه، فالحفاظ على ديمومة وهج الثورة وبقاء الساحة في حالة حراك ومُقاومة هيمنة الأحزاب السياسية على الفعل والقيادة وتخليص المجتمع المدني من هيمنة المال والسياسة هي الثورة بوسائل أخرى.