صابرة وجنّة ابن تيمية…

Photo

هناك شيء ما يُمكن أن نسميه الثأر من الماضي، فمن وقع اضطهادهم تاريخياًّ، حين يجدون متنفساً أو يتوصّلون إلى سلطةٍ مّا، فإنّهم يَعْمَلون على الانتقام داخل نفوسهم من كلّ مشاعر الخوف والذلّ واللاّكرامة التي عرفوها. ولذلك يُصبحون أشدّ إصرارا على فضح جلاّديهم وأكثر حرصا على التعريف بعذاباتهم، فهم إلى جانب ما يشعرون به من اضطهاد يحملون شحنات من أحلام اليقظة المكبوتة والرغبة الجامحة في الانتقام من التاريخ الذي هزم أحلامهم وأمنياتهم.

لعلّ أحد أسلحة الثأر من التاريخ، أدب السجون وهو نوعا من الأدب الواقعي الذي يكتبه أولئك الذين عانوا السجن والتعذيب، أو كتبه الذين رصدوا تجارب سجناء عرفوهم أو سمعوا عنهم. فأدب السجون يواجه هرج التبشير الفكري ومرجَ المسْرحَة السياسية المملّة، فقط على الرواية أن "تروي" ما وراء ما يُروى.

الأكيد أنّه ليست هناك حاجة إلى الإشهاد على الجحيم أو الإخبار على العذابات والمآسي التي مرّ بها سجناء الرأي وعائلاتهم في تونس خلال مرحلة حكم بورقيبة وبن علي، لكن يوجد صَهْدٌ هنا والآن... وجعه لا يؤجّل وعلاجه لا ينتظر يوم القيامة. لا واصل ولا فاصل بين الجمر والمصهود غير ذاكرته: آخر ما يتبقّى للمقهور وأوّل ما تبتلع النار.

من المحتمل أن يرد في الذهن مشهد النار وهي تبتلع الوقائع، حيث لم يترك أغلب المصهودين نصوصاً، فحتّى "رسائلهم" إلى أهلهم استبعدها الخوف والحذر وأكلتها النار أو أعدمها السجّان. هم عاشوا احتراقا، خلف الأسوار وخارجها، ثمانية عشر عاماً أو تزيد احترقوا ولم يترمّدوا.

من أين لنا معرفة حجم معاناتهم؟ أيّة مشاهد غير مرئيّةٍ، غير مرويّةٍ عاشوها؟ ماذا نُقوّلهم؟ أيّة أفكار وأحاسيس نحمّلهم؟ ثم لماذا الإصرار على الاقتراب منهم؟ لماذا العودة إلى معاناتهم؟ أَلمعرفةٍ أم لتخفيف شعورٍ بالذنب؟ كثيرون عانوا واكتووا بنار الظلم وغاب ذكرهم في المحافل الرسمية وسقطت أسماؤهم من قائمات المنظّمات الحقوقية والأحزاب السياسية. هل كنّا لنعود إلى صابرة والشاذلي لو لم تكتب بختة الزعنوني عن أيّام سجينة خارج الأسوار؟ وحتى إن اعتمد بعض الروائيين على التخيّل والاستنباط هل يكونوا ليُنصفوا "الإنسان" في إنسانيته؟

من الروايات التي قرأتها رواية "من أيام سجينة خارج الأسوار" لبختة الزعلوني، التي عايشت محنة السجن من خلال مدّة سجن زوجها من 1991 إلى 2007 ثمّ فترة المراقبة الإدارية إلى موفّى 2009.

إنّ بطلة هذه الرواية الواقعية، إنسانة عادية بلا ملامح بطولية. هي امرأة من ذاك الزمن، أذابها وهج الجمر فتحوّلت من العادي إلى الاستثنائي. إنّ صابرة المرأة العادية، صهرتها الأيّام وسبكتها حتى باتت أنموذجا للمرأة التونسية الأصيلة التي تقبض على الجمر لكنّها لا تتوجّع بل تَصبر وتُصابر وتُرابط، وأبداً لا تخون زوجها ولا تخذل أخاها ولا تُهين أباها، هي الحرّة التي تموت جوعا ولا تأكل بثدييها.

تدور أحداث الرواية بين سجن 9 أفريل بتونس العاصمة، وسجن المهدية بجهة الساحل، وسجن الهوارب بالقيروان، وسجن برج الرومي ببنزرت. حيث "يقبع السجناء هنا... أو هناك... في ركن ركين من السجون المتباعدة ... وتمرّ السنون بكلا كلها تجرّ أعمارهم خلفها...". وأمّا في العائلة ... خارج الأسوار يكبر الصغار ... ويموت الكبار ... وتتغيّر أحوال ... وتمتدّ علاقات وتنقطع أخر..."

هذا و تبدأ عذابات صابرة ومُعاناتها من سجن 9 أفريل، وتحديدا من اليوم السادس من شهر رمضان ومن تلك القفّة التي احتوت "الشربة" و"السلطة" و"البريك" والتي استنفذت صابرة كلّ جهدها وجميع طاقتها حتى تكون لائقة بزوجها الشاذلي.

ككلّ مرّة، أضافت صابرة إلى كلّ طبق من الأطباق التي أعدّتها للشاذلي شيئا من ذاتها وقليلا من ريحها وكثيرا من رائحة مريم ونهى، ورتّبت الغلال في أكياس بلاستيكية ضمّنتها حرقتها وصبرها على الأذى. لكنّ جميع هذا لم يشفع لها لدى الحارس الذي أبى أن يستجيب لتوسّلاتها وقال لها "انتهى الوقت ! هاتها غدا، لن أفتح الباب... اذهبي... !

تُواصل صابرة سرد حكاية خيبة "القفّة" التي التحقت بقائمة الخيبات التي عرفتها... فكانت تلوم نفسها وتُعاتبها أحيانا وتبحث لها عن الأعذار أحيانا أخرى. لتسلّم في الأخير بأنّها لم تُحسن التقدير... ما كان عليها أن تقطع وعدا أمام زوجها بأن تأتيه بمرق الجلبان والبريك... لكن "يشهد الله بأنّها وعدت... ووفت ولكنّها لم تبلّغ القفة"…

الموعد الثاني مع معاناة صابرة كان أيضا من سجن 9 أفريل ذات يوم من أيّام شهر ماي وشمسه الحارقة. تروي صابرة حجم مُعاناة أهل سجناء الانتماء، الذين يكابدون عناء القفّة والوقوف في الطابور إضافة إلى الحرص على المزيد من التخفّي حتى لا تطالهم نظرات الأعوان ومعاملاتهم المُشينة.

تَسِم صابرة المشهد بالرهيب والمهين، وتحكي كيف أجبرها أحد الأعوان ذات مرّة على الكشف عن قسم من شعرها وكيف طلب منها أن تحلّ قفل المشبك الذي كانت تشدّ به "السفساري". وتعود بها الذاكرة إلى يوم تبعثر حالها حيث قام الأعوان بإهانتها لأنّ حماها أصرّ على حضور جلسة محاكمة الشاذلي في بوشوشة عوضا عنها مُتّهما إيّاها بأنّها السبب في سجن ابنه...

تروي صابرة بلوعة كبيرة تجرّؤ الأعوان عليها ووصفهم إيّاها بنعت لم يتوجّه به إليها أحد قبل ذلك... فقط لأنّهم "استكثروا عليها الجمع بين العمل والدراسة..."

تنتقل صابرة في ظلمة الليل الحالكة من سجن إلى آخر ومن مدينة إلى أخرى تحمل بيدها اليمنى "القفّة" وعلى كتفها ابنتين وحقيبة. وتقضي ليلها في تحضير الطعام وحفظه داخل العلب البلاستيكية ونهارها في مُصارعة لاإنسانية من حولها.

كانت صابرة في كلّ مرّة تطوي الوقت طيّا راكضة من موقف سيارات أجرة إلى موقف آخر، محاولة التوفيق بين مواعيد العطل المدرسية والأعياد ومواعيد زيارة الأبناء للآباء، حتى لا تُحدث إرباكا في الأولويات وتُحسن التقدير بين المصالح العائلية النفسية والاجتماعية والمدرسية.

حرصت صابرة، رغم علمها بطول الانتظار وقسوة الظروف وعناء التنقّل، على إتاحة فرصة للبنتين للتحادث مع أبيهما خاصة وأنّ فترات الزيارة صارت مُتباعدة... ومكان السجن ناء ومنزو.

وفي المُقابل تتعمّد إدارة السجن، في كلّ مرّة، المزيد من إذلال عائلات السجناء بتعطيلهم وتأجيل مواعيد زيارتهم حتى تصير الزيارة بالنسبة للأطفال آخر اهتماماتهم ويقلّ إقدام الأهل على زيارة أبنائهم... ويقول والد إسماعيل السعيدي في لحظة غضب وانفعال كبيرين "لكن هيهات أن نتخلّى عنهم.!"

تصف صابرة، بلوعة وألم، كيف ترفع ابنتها نهى لترى أباها وتسلّم عليه فالقضبان عالية وقد رشقت على جدار من اسمنت يصل إلى مستوى الصدر... يكون السلام مُقتضبا داخل غرفة ضيقة ومظلمة وشبّاك صغير خلفه عون يتسلّم من خلاله الثياب الجديدة ويسلّم القديمة مع الأقفاف الفارغة.

مرّت على صابرة ستّة عشر سنة وهي ما إن تنتهي من لملمة خيبة الرحلة السابقة حتى تبدأ بإعداد العدّة لرحلة أخرى. وكلّ رحلة تبدأ بانتظار وشوق وتنتهي بخمس دقائق في غرفة ضيقة ومظلمة وسلام مُقتضب وأبناء يتذمّرون من الجوع والتعب.

أسئلة كثيرة كانت تُراود صابرة بعد كلّ رحلة: هل كان مدير السجن يشعر بمعاناة صابرة وأخواتها؟ ألا يشعر بوخز الضمير وهو يتناول عشاؤه بين أولاده؟ ألا يعلم أنّ الأطفال لا طاقة لهم باحتمال الجوع والبرد وهم ينتظرون زيارة أب طال غيابه؟ ألا يعلم أنّ تلك العائلات التي يتعمّد إذلالها تدفع الثمن مضاعفا؟

لم تبحث صابرة عن إجابات لمثل هذه التساؤلات... لأنّ ما توقن به حقّا "أنّ الحاكم والمحكوم سوف ينتهيان إلى الموت"…

هكذا، تعود صابرة بعد كلّ رحلة بخوف جديد، وخيبة أخرى وبارتفاع في منسوب عدم الشعور بالاطمئنان. يسكنها الرعب من السياقة المُتهوّرة لأصحاب سيارات الأجرة ومن سرعتهم المُفرطة، ويتلبّسها الشعور بأنها في غابة مليئة بالسباع والأفاعي وأنّها تمشي بينها في غفلة من أمرها...

لقد أيقنت صابرة أنّ الواقع مع أنّه عين الحياة قد يؤدّي بالمرء إلى الموت وقوفا بين الأحياء... وأنّ الوهم أحيانا مع اليقين بأنّه مجرّد وهم قد تورق بسببه الصحاري فتُصبح واحات أمل وحياة…

هذا جزء موثق من قيمة الإنسان في دولة "المؤسّسات والقانون"، وهذه عيّنة من أدب السجون التي تفضح وتنسف كل ادعاء بإنسانية المواطن في دولة رفعت شعار "التحديث" في خطابها السياسي طوال خمسة عقود.

اليوم، للأسف، تُبدِّل حملات التفتيش عناوينَها لتُدخل صابرة في أفقر صورها. والمفارقةُ، في هذه المرحلة، هي بين تكاثر الروايات وتفرّعها وانتشارها في حياة الناس اليوميّة وبين تشديد الرقابة عليها وتشويهها، تبلغ شراسةً الإنسان إلى حدّ التشكيك في حرقة صابرة، وامتداداً إلى حد التسلّط على ذاكرتها من كل حدب وصوب، حيث يُدلي بدلوه كلُّ من هبّ ودب. تحدّي بختة الزعلوني، ليس في سرد حكاية صابرة، ولا في التعليق عليها، وإنما في قدرتها على تحويل الذاكرة إلى سلاح تطهّر وتطهير كاملان منتهيان، فهي تكتب قصّة صابرة ليقرأها الناس ويُخبروا بما قرؤوا ليكون إعلان جماعي باتهام وإعلان مواجهة ومُحاكمة. لأنّ صابرة لم تترمّد بمُفردها خارج الأسوار. بل ترمّد معها، وفي حال واحدة، "جمع" كثير. ومن هنا يكون التماهي، على وجه التضامن والتساند: "كلّنا صابرة".

وفي جميع الأحوال، لن يبقى من صابرة ومن أمثالها غير ما رُمّز وانبنى أنموذجاً.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات