حين يتعلّق الأمر بالحديث في نصّ واحد، إشادة وتكريما وتأبينا، عن مناضلة نسوية في قامة فاطمة المرنيسي، تتجاذبنا في ذات الوقت مشاعر الإعجاب و الاعتراف والحزن، الإعجاب بأعمال هذه المُناضلة النسوية، والاعتراف بأنها مؤَسِّسَة لمنهج نضالي نسوي تأويلي، والحزن العميق لأنها فارقتنا ولم نعطها حقّها إشادة وتكريما. في هذه السياقات الحزينة لن نسمح لأنفسنا بغير الانحناء تقديرا لأعمال الفقيدة وإجلالا لفكرها. قرأنا ونقرأ ونعيد قراءة كُتبها العديدة: ما وراء الحجاب؛ شهرزاد ليست مغربية؛ هل أنتم مُحصّنون ضدّ الحريم؛ الجنس والايدولوجيا والإسلام؛ الحريم السياسي: النبي والإسلام… مُحاولين دون ادعاء زاعم ولا زعم واهم العبور إلى فكرها تفكيكا ونقدا وتأويلا.
مثل جميع المساهمات الكبرى، توزّعت أعمال فاطمة المرنيسي حول فكرة محورية عملت خلال مسيرتها المعرفية بتطويرها والتوسّع فيها وصياغتها وإعادة صياغتها، وهي فكرة قائمة على حقّ "التأويل" وإعادة قراءة النصوص والواقع التاريخي.
أطروحتها الأساسية كانت حول ما يُمكن أن نسميه "النسوية الإسلامية" جاءت أوّلا في كتاب أكاديمي يتميز بجرأة المُعالجة وبأصالة المنهج، ويجسّد انتصاراً صريحاً للنضال النسوي الإسلامي. هذا الكتاب هو: الحريم السياسي: النبي والإسلام. مجموعة من الأفكار المؤسِّسة تحوّلت شيئا فشيئا إلى أطروحة غنية ومُقاربة نظرية جوهرها يتمثّل في البحث في سؤال "هل يُمكن لامرأة أن تقود المُسلمين؟".
انطلقت فاطمة المرنيسي من قضية استبعاد النساء من المجال العام والمجال السياسي. وركّزت في مُختلف أعمالها على فكرة أنّه قد تمّ تاريخيا تشويه وتحريف رسالة النبي وإخراجها عن السياق الأصلي الذي جاءت فيه، وذلك من أجل تعزيز "الأفضلية الذكورية" من قبل العلماء والفقهاء الذين قاموا بتوظيف النصوص لمصالحهم ومصالح المُهيمنين سياسيا واقتصاديا، وذلك خلافا لرسالة المُساواة التي طبّقها الرسول في حياته الشخصية. وبرهنت فاطمة المرنيسي بأدلّة بيّنة، استقتها من حياة الرسول وسيرته، أنّ محمد النبي لم يكن مُعاديا للنساء، ولذا فهي نوّهت بصورة النبي النسوي ونهجه في المُساواة بين الجنسين. حيث اكتشفت المرنيسي أنّ تاريخ حياة النبي تاريخ مُدهش من الحبّ، وأنّ هذا الحبّ استلهمه الرسول من الغوص في رؤية القرآن للإنسان وللعالم.
أمّا منهجيا انطلقت المرنيسي أولا من مرجعية الإسلام وتاريخه؛ ثانيا من إعادة قراءة سيرة النبي محمد عليه الصلاة والسلام في سياقها التاريخي والاجتماعي والسياسي؛ وثالثا مراجعة جميع الأحاديث المُتعلّقة بشأن النساء.
أكّدت فاطمة المرنيسي على حقّ المرأة المُسلمة في أن تستمسك النصّ الديني وتستنطقه بنفسها من أجل تأكيد النزعة التقدّمية المؤكّدة لحقوق النساء الأساسية ولحقّهنّ في تفسير كلام الله – مع تأكيدها على ضرورة توافر شروط التكوين والمعرفة-.
كما قامت فاطمة المرنيسي بإعادة قراءة النصوص والأحداث وربطتها بسياقاتها التاريخية. فهي قاربت النصّ من حيث هو مُتجذّر في واقع اجتماعي وسياسي وثقافي وتاريخي. وهكذا كشفت حقائق جديدة تُعيد للمرأة كرامتها وأهليتها وكامل حقوق المساواة التي حجبها الفقهاء التقليديون. وطالت مُقاربتها الصارمة أولئك الذين صنّفوا النساء والأطفال في فريق "السفهاء"، وكذلك تعرّضت لمُقاومة الخليفة الثاني عمر لمُطالبة النساء بحقّهنّ في المُشاركة في القتال ونيل الغنائم. كما أبرزت الفعل النسوي الماجد لنساء من أمهات المؤمنين، نساء حسب قولها جسّدن الإرادة الحرّة، وقيمة الإنسان العميقة، نساء يرمزن للنسوية المُسلمة الخالدة :أمّ سلمة وعائشة وسكينة بنت الحسين، والنسوة السبعون اللائي أطفن بآل محمّد ليلا يشتكين أزواجهنّ لأنّهم يضربوهنّ.
كشفت فاطمة المرنيسي في كتاباتها النمط الذكوري السلطوي الذي فرضه فقهاء النظام العبّاسي على الإسلام الذي يؤكّد في جوهره على المساواة الأخلاقية والروحية بين جميع البشر.
تختلف فاطمة المرنيسي عن "الإصلاحية الإسلامية" الحديثة والمُعاصرة وما ذهبت إليه في شأن المرأة، حيث أنّ هذا التيّار الإصلاحي لا يحاول تجاوز النصوص أو يخرقها أو يعلّقها أو يستبدل بها غيرها على سبيل الرفض والهجر أو تعديل الفهم. وأقصى ما يذهب إليه تسويغ أحكام الإسلام المُستشكلة مع الضمير الحديث ويجتهد في أن يجعل أحكام الدين قريبة من هذا الضمير أو موافقة له.
كما تختلف فاطمة المرنيسي عن "النسوية الإسلامية الرافضة" التي ترفض الأساس الميتافيزيقي أو اللاهوتي الذي يقوم عليه دين الإسلام. وقد رافق هذا التيار أدبيات لناشطات نسويات مُسلمات تعرّضّن لعذابات المرأة المُسلمة، وعملن من أجل تحررها وتحريرها. نذكر من بينهنّ تسليمة نسرين التي انتقدت الأحكام التي وجدتها في النصوص الدينية وتنعتها ب"البربرية الدينية" وترفض ما يتعلّق بما ملكت أيمانكم وتعدّد الزوجات وانصياع الزوجة لأوامر الزوج ورغباته.
احتلّت قضية المرأة في فكر فاطمة المرنيسي موقع القلب والمركز. وأكّدت على وجود مفارقة كبرى في عالم الإسلام، بين الواقع والنصّ، واقع المرأة من جهة، وروح النص الديني وحقيقته من جهة أخرى.
من المؤكّد أنّ كثيرين لا يرتاحون لكتبات المرنيسي ومنهجها النضالي النسوي التأويلي، وأنّ كثيرين لا يقبلون استعمال مصطلح "نسوية إسلامية" للتعبير عن الحراك الفكري والاجتماعي الهادف إلى استنهاض قراءة حديثة للنصّ الديني. لكن من المؤكّد كذلك أنّ تيّارا ذو طبيعة نسوية بدأ بالظهور منذ بداية الألفية الثالثة من داخل الإسلام وبالإسلام فهي "نسوية إسلامية" لا تتلبّس نسوية المرأة الغربية لأنّ مطالبتها بحقّ الاعتراف والمساواة يقوده الوعي الحرّ والمُستقلّ الذي يؤسّس خياراتها وقناعاتها.