أحيانا يمرّ أحدنا بواقعة تخليّه يكتشف مدى تأثير غرف العمليات -الحقيقية والإفتراضية- على مواقفنا وآراءنا وتصوّراتنا.
الرأي العام بناية تتشكّل شيئا فشيئا بمساهمة السياسة والإعلام والمال والدين فتتحوّل إلى "حقيقة" تتجوّل بين الناس وتتحكّم في أفعالهم ومواقفهم... موارد وأدوات وبرامج توضع داخل ماكينات تخرج "واقع".
فجأة يحدث زلزال فتكتشف أنّ البناية موش راكزة على أسس صلبة ... تحدث شقوق ويتسرّب الماء وتقطر الأسقف وتطير القشرة البرّانية ولا يبقى غير منظر الياجور والسيمان المغشوش…
تعرّض بيت أحد الأصدقاء إلى السرقة (رغم أنه يقطن بمنطقة راقية)... بدا لي أنّ الأمن تعامل بطريقة غير مقبولة مع الحدث: استهانة ولا مبالاة وانعدام الحدّ الأدنى من المسؤولية.
استخلصت أنّ "الدولة" ماتت وكلّ فرد عليه أن يبني دولة خاصة به (كما المدارس الخاصة والمستشفيات الخاصة والنقل الخاص...) يعمل أمن خاص لحماية حياته وموارد عيشه وممتلكاته وأولاده ولحفظ كرامته من التمرميد.
اليوم كان لي حوار مع أحد أعوان الأمن الذي فهم وإلاّ فهّموه أنّه تعامل مع الحدث بطريقة غير لائقة بدولة لها 60 سنة استقلال وتعتبر أنموذجا يُقتدى به في "التحديث".
للتبرير قدّم لي أرقام السرقات التي تحدث كلّ يوم وكلّ ليلة وعمليات السطو على ممتلكات الناس وانتشار الجريمة المنظمة وكيف أصبحت العصابات تشتغل بتقنيات عالية... لا ينفع معها كاميرا ولا ألارم....ولا دوريات الشرطة.
حقائق ووقائع وممارسات لا نعلمها ولا يمكن أن تخطر على بالنا أشكال جديدة في ممارسة الجريمة وجرأة كبيرة واستخفاف بجميع القوانين وانهيار تام لمنظومة القيم والمعايير... ورجل الأمن أصبح يخاف من ملاحقة السارق لأنه غير محمي لا ماديا ولا قانونيا. ولو يُطلق النار على السارق يتحوّل السارق إلى "ضحية" والأمني إلى "مجرم".(هذا الكلام لرجل الأمن…)
الأمور تلخبطت والواقع ليس كما نتصوّره والأمنيين ليسوا أعداء الشعب وهم أكثر ناس معرّضين حياتهم للخطر ويعيشوا الضغط ويعانون من النظرة الدونية وعدم الإعتراف... وهم يبحثون على التعويض بشيء ما.
والأكيد أنّ هناك جهات من مصلحتها توتير العلاقة بين رجال الأمن والمواطنيين حتى يخلو لهم وجه تونس.... وحتى يترحّم الناس على عهد الأمن والأمان ويعرفوا قيمة "دولة البوليسية"... حتى أنّ أغلب المحلّلين الإعلاميين أصبحوا يستعملون صيغة المقارنة: "قبل الثورة كنّا" و"بعد الثورة أصبحنا"…
أغلب رجال الأمن ناس بسطاء يتأثرون بما يدور حولهم ويتفاعلون مع الأحداث كما يتفاعل معها رجل التعليم والطبيب والمحامي والتلميذ والطالب والبطّال... و"النقابات" تحوّلت إلى لوبيات تستعمل سذاجة بعض منظوريها وأحيانا طمع وخبث وانتهازية بعضهم الآخر لخدمة مصلحة لوبيات المال والسياسة...................
وفي جميع الحالات ليس هناك أي مبرّر حتى لا يقوم عون الأمن بعمله كما يُمليه عليه الواجب المهني والوطني.....
عاشت تونس رايتها مرفوعة ترفرف في سماء دون "نقابات أمنية"....