تحديث قسري وأسلمة بدون منطق

Photo

في ستينيات القرن الماضي فرض (بمعنى دعا) بورقيبة على الموظّفين عدم اداء فريضة الصوم لأنها تُؤثّر على المردودية... كان والدي رحمه الله يشتغل ممرّضا في عيادة خاصة لدى طبيب (مستيري) وزوجته فرنسية من جماعة بورقيبة للنخاع. فتشدّد (العزري أقوى من سيده) في تطبيق القرار وكان والدي من الذين أصرّوا على الصيام وقال حتى لو خرجت من العمل اللعب موش مع الصيام.(رغم أن والدي كان لا يصلّي ولا يفهم برشة في الحلال والحرام)... ولولا أنّه كان من الممرضين القلائل في تلك الحقبة التاريخية لكان مصيره الطرد.

كما دأب والدي منذ أكرمه الله بالزوجة والأبناء والدار الملك على ذبح خروف كلّ سنة (وعدة لجدّه)... في القرية مسقط رأس والدي لديهم ولي صالح (جدّهم) وزاوية وعندهم زيارة سنوية يذبحون "الوعد" ويأتي الناس لأكل الكسكسي واللحم... والدي لا يذهب للزاوية يذبح في البيت ويُقسّم اللحم ويوزّع على الجيران والأقارب والناس تدعي له. وهو يحسّ أنّه دفع البلاء على نفسه وعلى أبناؤه وجدّه راضي عليه.

لمّا دخل الدين الجديد بيتنا قلنا "لا يجوز ... حرام... هذا شِرْك"... استعمل أبي جميع الحيل ليُقنعنا لكن "انتصرنا" وما عادش يذبح ولا يتصدّق. كنّا نُحارب كلّ شيء باسم "الدين الجديد"... "لا يجوز التعطّر".."لا تجوز المصافحة"... "هذيكة خُلوة" وهذاكا حرام ... نصوم مع هلال السعودية ونفطر مع هلال ليبيا والمُفيد "تونس لا"... حرّمنا الآلات الوترية وقاطعنا الموسيقى وعملنا منوال لأعراس نفصل بين الذكور والإناث بستار عازل وفِرق موسيقية خاصة بنا ولباس يختلف على لباس أفراد المجتمع وإلّي مدّ يدّه للمصافحة ننبزوه وإلّي يزورنا وفيه ريحة حداثة بورقيبة ما نخرجوش نسلّم عليه (خالنا وعمّنا وحتى خونا كان لزم الأمر...) ... ودخلنا في حروبات لآ أوّل لها ولا آخر ... دخلنا في صدام مع الوالد (المجتمع) وعملنا حلف وأصبحنا عائلة (مجتمع) "مفترش(ة)".....

بورقيبة أراد تحديث المُجتمع فعَصَره وخرّج له مصارنه ... والإسلام السياسي أراد أسلمة المُجتمع فدخّل فيه غولة.... كلاهما تعسّف وأخطأ في حقّ المجتمع التونسي وأراد فرض منوال مُجتمعي يتطابق مع أيديولوجيته...

ونحن اليوم نجني ثمار تحديث قسري وأسلمة بدون منطق: مجتمع بثقافة هجينة وشباب يعيش انفصاما في الشخصية ومؤسّسات هشّة ومتداعية للسقوط ودولة "حديثة" لا تحترم أي قيمة من قيم الحداثة... ونخبة سياسية ودينية انتهازية وتابعة للنظام السياسي القديم والجديد وتتمعّش من الفتوى والفكرة والرأي…

وجامعيين يشتغلون مقاولين ودهّانة لدى جهات أجنبية (عربية وغير عربية(... وشعب موش فاهم روحه تابع لقطر وإلاّ لفرانسا.

أظنّ أنّ الغنوشي فهم حجم الخطيئة التي ذهب ضحيتها آلاف الشباب ومئات العائلات وساهمت في تعميق الهوّة بين نصفي المجتمع (حداثي/محافظ) لكن ترميم الشرخ لا يكون بربطة عُنق وتوافقات مغشوشة وحوارات فاقدة للمرجعية…

ويبقى على جماعة التحديث والعصرنة أن يفهموا أنّهم كانوا سندا (ولازالوا) لمشروع تحديث تعسّفي لم يأخذ بعين الإعتبار الخصوصية الثقافية للمجتمع التونسي …

لا بدّ من مراجعات وتقييمات عميقة … يكون المجتمع بمُختلف فاعليه وتمثّلاته ومعارفه حاضرا فعلا وليس تمثيلا.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات