نشرت جريدة المغرب في افتاحية عددها بتاريخ الجمعة 23 ديسمبر 2016 مقالا للأستاذة أمال قرامي عنونته " وشائج الصلة بين حادثة الاغتيال وحادثة برلين". حاولت قرامي إيهامنا بوجود وشائج صلة بين الحادثتين "حتى وإن سعى المحللون والخبراء في «الحركات الإسلامية» وغيرهم من السياسيين إيهام الرأي العام (حسب قول قرامي) بأهمية تنزيل الحادثتين في إطار آخر".
انطلقت قرامي من فكرة "أنّ الظاهر يوحي بالقطيعة والانفصال والتباين التام بين مسار الشخصين (الزواري والعمري) غير أنّ المتأمّل في الموضوع يجد وشائج صلة بين الحادثتين". حسب رأيها فإنّ "الشهيد القسامي" والإرهابي المُفترض "تونسيان عاشا على أرض هذا الوطن وفي ظل أسرة تقليدية ودرسا في المؤسسة التعليمية وعاينا استشراء الفساد والظلم والخذلان والانكسار"، وهكذا ربطت بسهم بين الحادثتين، رغم إقرارها بتباين تفاعل الزواري والعمري مع السياقات التي نشآ فيها حتى توهمنا بأنها تلتزم الحياد والموضوعية بينما يسعى الآخرون إلى ممارسة الإيهام والإستيهام.
الأستاذة قرامي كعادتها تستعمل سلطتها المعرفية، وتستثمر رأسمالها الرمزي وتُعطي لنفسها حقّ ترجمة الوقائع، وتأويلها زاعمة كما بقية "النخب المثقفة" الحياد الأكاديمي والموضوعية العلمية وامتلاك الحقيقة. كما أنّها استعملت خبرتها في الكتابة الصحفية، التي دأبت عليها منذ سنوات، لبناء نماذج تحليلية استهلاكية انطلاقا من فرضيات غير مدعومة بمعطيات مؤكّدة أو مؤشّرات صحيحة.
لن أناقش التحليل ولا الخلاصات التي توصّلت إليها الأستاذة قرامي، لأنّ حسب رأيي ما بني على فرضيات هشّة ومعطيات مُتَوَهَّمة يكون متداعيا للسقوط (الإيبستيمولوجي والأخلاقي) حتى وإن كان في الظاهر يوحي بالموضوعية العلمية والحياد المعرفي. حيث واقعيا (اجتماعيا وثقافيا وذهنيا وعلميا) لا وجود لـ"مشترك" بين مسار الزواري ومسار العمري غير الانتماء القانوني-الإداري إلى تونس، ولا سهم يربط بين الحادثتين غير ذاك الذي ينطلق من قوس أصحاب الأجندات المشبوهة.
بداية، محمد الزواري لا ينتمي إلى جيل أنيس العمري، كذلك هما لم ينشآ في نفس السياقات المحلية والدولية. فالزواري نشأ في أسرة تقليدية ومحافظة من فئة اجتماعية مُتوسّطة (ميسورة نسبيا) زرعت بداخله قيم العلم والعمل فدرس واجتهد وثابر حتى ارتقى إلى مراتب العلماء. كما تربى داخل مؤسّسات تعليمية غير رسمية (الحلقات المسجدية والاتجاه الإسلامي) علّمته معنى الانتماء إلى "إسلام العروبة" ومعاني "الجماعة" و"إماطة الأذى عن الطريق" و"كلّ المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه" و"أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" و"من مات دون عرضه فهو شهيد". وغادر الوطن كرها، وأصرّ على إتمام تعليمه وإنجاز مشروعه. تعلّم بين أحضان المقاومة الفلسطينية فعل "المقاومة" وممارسة "الجهاد المقدّس" وفهم معاني "الممانعة" و"التطبيع" و"الخيانة" وشارك في أسمى المعارك وأكثرها رقيا. محمّد الزواري صُهِر بنار الظلم والاستبداد فحوّلته المنافي إلى ذهب عيار 24 (وعيا وفعلا وممارسة). واقعة استشهاد الزواري فتّحت أعيننا على رداءة فعلنا وضعف إرادتنا وعدم صوابية وُجهة بوصلتنا ورفعت ورقة التوت على عورات نُخبنا المُطبّعة والمُتصهينة.
أمّا أنيس العمري فقد نشأ في سياقات سياسية بلغ الظلم فيها مداه، وسياقات اجتماعية تميزت بموت العائلة وموت المجتمع وموت الإنسان، وسياقات اقتصادية استفحل فيها الفساد والإفساد، ونهل من مدارس العائلات المافيوزية وتربى على منظومة قيمية بناها صندوق سامي الفهري والبروموسبور ومن يربح المليون. أنيس العمري لم يولد في إطار عائلي يحثّ على الاجتهاد والبذل، ولم ينشأ في إطار مجتمع يحترم العلم والعلماء، ولا في مؤسّسات تعليمية تحترم ذاتها. أنيس العمري أحد مُخرجات إصلاح محمد الشرفي وإعلام عبد الوهاب عبد الله وفساد بلحسن الطرابلسي وخراب "دولة الحداثة"، أنيس العمري فرّ من تونس بحثا عن المجهول فوجد نفسه بدون هوية ولا وطن ولا "فعل" يجعل منه إنسانا ولا قيم يتوسّدها حين يخلد إلى النوم، حادثة أنيس العمري إشارة تُنبّهنا بلوغ السيل مداه.
ولذا حسب رأيي أخطأت أمال قرامي بربطها بسهم بين منظومتي قيم متباينتين إلى حدّ التضادد، وجمعها بين حادثتين مُختلفتين إلى حدّ التنافر في البدايات والمآلات. فالوقائع تتخذ معناها من التداعيات التي تُنتجها، والهويات عناصرها مُتغايرة بتغاير "الفعل" المنسوب إلى أصحابها، فهوية الشهيد محمد الزواري تجاوزت السياق المحلي "تونسي" لتكتسب بُعدا قوميا يربط البحر بالبحر ليس بسهم وإنّما بقضية اسمها "فلسطين".