مُثقّف كلّ لحظة وعلمها... أمال موسى أنموذجا

Photo

استقالت الشاعرة أمال موسى من منصب مديرة مهرجان قرطاج الدولي في دورته 53، وأصدرت بيانا تتّهم فيه وزير الثقافة بأنّه "انقلب على تعهداته الطوعية الأولى بواجب الدعم والمساندة واستسلم لمخاوف ذاتية افتراضية"، مُعتبرة أنّ "الوزارة الحالية بلا مشروع ثقافي تأسيسي حقيقي يستجيب لتحديات اللّحظة وتطلعات مختلف فئات المجتمع".

الأكيد أنّ الشاعرة مُحقّة في الحجج التي أوردتها لتبرير استقالتها، والأكيد كذلك أنّ الوزارة الحالية لا تملك مشروعا ثقافيا تأسيسيا، لكن الأكيد أيضا أنّ الأستاذة أمال موسى ليست مُخوّلة لتحديد أسس المشروع الثقافي الذي يستجيب لتحدّيات اللحظة كما أنّها غير مؤهّلة لتعريف تطلّعات مُختلف فئات المجتمع.

طبعا لا نستطيع من باب الموضوعية والإنصاف التقليل من شخص أمال موسى؛ فهي شاعرة نالت جوائز عالمية وهي أيضا كاتبة وأستاذة جامعية وإعلامية ومناضلة نسوية. ومن ثمّة فالإشكال ليس في أمال موسى ولكن في "النُخب القديمة" التي فرضت نفسها على اللّحظة التي تعيشها تونس ونصّبت نفسها مُتكلّمة باسم فئات المجتمع ومُعبّرة عن الذوق العام، مع أنّ رصيدها "القيمي" لا يسمح لها بذلك. والمشكلة أنّ هذه النخب تتصرّف مع مؤسّسات الدولة بمشروعية "العهد البائد" وتُمارس "الشرعية" في انعدام تام لقيمتي "الحشمة" و"المروءة".

أولا أمال موسى "مُثقّفة" انتمت ماديا ورمزيا إلى مشروع تحديثي تونسي أنتج لحظة 17 ديسمبر -14 جانفي. فطالما كرّرت أنّ "إعلان الاستقلال وبناء الدولة الوطنية التونسية في 21 مارس 1956 أكثر تواريخ الذاكرة التونسية فرحا وابتهاجا وانتصارا"، غير أنّها في سياق آخر تقول: "إن السياسي الجيد في تونس اليوم هو الذي يتذكر يوميا يوم 14 يناير (كانون الثاني) 2011، فهي ذكرى مليئة بالعبر بالنسبة إلى من تتوفر فيه كفاءة الاعتبار! ". وهي قبل لحظة 14 جانفي تؤمن بأنّ تونس مرّت بأكثر من نصف قرن من الحرية والرغبة الشديدة في البناء والتقدّم والجهاد ضدّ التخلّف... الذي وقع على إثره إثراء المشروع التونسي التحديثي بقيم العقلانية والتسامح والتقدّم ..." !

ثانيا أمال موسى ساهمت من موقعها المُتميّز كشاعرة وكاتبة وإعلامية و"مُثقّفة" قريبة من سلطة القرار، في دعم ومُساندة منوال تنموي وثقافي قاد البلاد والعباد إلى لحظة احتراق جماعي ترمّد خلالها جسد البوعزيزي ورفاقه، والتحدّيات التي تتحدّث عنها في بيان استقالتها، هو الرّماد الذي خلّفته محرقة صنعتها منظومة ظالمة ومُتسلّطة، وهي ليست سوى بعض تداعيات السياسات الثقافية والتنموية التي دعمتها النخب المُثقّفة القديمة مُستسلمة لمخاوفها الافتراضية ومصالحها الواقعية وامتيازاتها التي كانت تبتزّ من خلالها عقول الناس. أليست أمال موسى من مدح المشروع الثقافي التحديثي بقولها (متحدّثة عن عهد نظام بورقيبة وبن علي): "دون أن ننسى المنزلة الرفيعة التي تحظى بها دوما المسألة الثقافية في بلادنا وذلك بوصفها آلية أساسية من آليات التنمية وإليها تستند معركة الخروج من التخلّف…" وأنّنا "في هذا السياق من الوعي القوي بضرورة إشعاع الثقافة التونسية …"؟

وحين تقول أمال موسى أنّها "لن تنخرط في أجواء لا تعترف بالمشروع الثقافي الفني ولا تؤمن باستقلالية التصور" فهل يعني هذا أنّ الأجواء التي انخرطت فيها سابقا تعترف بالمشروع الثقافي الفني وتؤمن باستقلالية التصوّر؟

ومن ثمّ، فإنّ بيان استقالة أمال موسى فيه استخفاف بذكاء التونسيين ونُخبهم الجديدة، وهي أوّل عاهة خطيرة يُمكن أن يُصاب بها المُثقّف والسياسي والمُفكّر، أمّا العاهة الثانية ولعلّها الأكثر خطورة، هي اختزال المسألة في بعدها الجندري كما الطريق الذي سلكته الأستاذة أمال قرامي في إحدى تدويناتها.

إنّ استقالة الشاعرة أمال موسى لا تحتاج إلى تأويل ذكوري ولا إلى تصنيف أنثى/ذكر … فهي واقعة فرضتها اللّحظة الراهنة التي أنتجتها أكثر تواريخ الذاكرة التونسية فرحا وابتهاجا وانتصارا ألا وهي لحظة "DEGAGE ". والهروب إلى الأمام … لا يعني دائما رفض هيمنة "الآخر" والحرص على استقلالية التصوّر، وإنّما هو غالبا نتيجة العجز عن تصوّر "نمط جديد" و"حياة مُشتركة" يستجيب فيهما الفنّ واللباس إلى أذواق مُختلف فئات المُجتمع.

نعم !!! الاستقالة ممارسة احتجاجية شُجاعة وفعل مُقام لهيمنة تصوّرات "الآخر" وخطابه على أفعالنا، ولكنّها تعني أيضا عدم القدرة على التحرّر من هيمنة نرجسية "الأنا" المُقاومة للاعتراف بالمُغاير، والإصرار على أنّ الخطأ هو "الآخر" والصواب هو "أنا".

بصرف النظر عن الحيثيات والأسباب والمسبّبات، فإنّ أمال موسى فشلت في مهمّتها كمديرة لمهرجان قرطاج الدولية في دورته 53 قبل انطلاقها، وفشلت في إدارة حدث الاستقالة وفي استثماره، ومن مؤشّرات هذا الفشل بيان الاستقالة الذي جاء في لحظة تاريخية غير ملائمة (إقالة عبيد البريكي والجدل حول إقالة ناجي جلول و…)، وأيضا مضمون البيان الذي في ظاهره تمرّد "أنثوي" ضدّ إملاءات السيد الوزير، وفي باطنه الانخراط الضمني في معركة تموقعات داخل وزارة الثقافة.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات