السياسي والمُثقّف والخبير والأكاديمي... أغلبهم يستيقظ صباحا يعمل "دوش" ويقرأ جريدة أو يعمل نظرة على الفايسبوك، ويشرب قهوة ويوصّل الأولاد للمعهد الخاص بإحدى الضواحي، ثمّ يتّجه نحو مكتبه بمقرّ الحزب أو بالجامعة أو بإحدى مُؤسّسات الدولة، حيث ينتظره يوما طويلا من "تدوير" و"تكعيك" الشأن العام.
تونس بالنسبة إليه لا تتجاوز مطار تونس قرطاج ونزل Le CONCORDE بالبحيرة والطريق المؤدّية إلى الحي الراقي الذي يقطنه والطريق السيارة التي يأخذها صباحا في هذا الاتجاه وفي المساء في الاتجاه المُعاكس، تأتيه التقارير مكتوبة وتجتمع لديه المُعطيات والأرقام على قرص مضغوط فيصنع المؤشّرات ويخترع السياسات ويقترح حلولا للمُعضلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
كلّما وُجّهت له دعوة لحضور اجتماع أو مؤتمر أو ندوة لمناقشة مسألة تتعلّق بالشأن العام، يستشير أرقامه ويستدعي شهائده التي تحصّل عليها من إحدى الجامعات الأوربية ويتأبّط وجاهته ويتجلبب صفاته الحزبية أو العلمية وينتعل تاريخه النضالي ويمتطي حمار الحوار وينطلق في رحلة تحليل وتأويل وقراءة استشرافية تنتهي به في هذه الضفّة أو تلك حسب مزاج الجمهور الافتراضي.
خمسة سنوات وعدد هؤلاء المُحلّلين والخُبراء والسياسيين في تكاثر مُستمرّ، بعضهم عُرف بتخصّصه في مجال بعينه وبعضهم الآخر يتحدّث في المجال الذي يطلبه السوق، ويُغيّر جلبابه السياسي حسب مقتضيات قانون العرض والطلب ويختار لون ربطة عنقه حسب وُجهة التوازنات داخل السلطة.
المنافسة بين هؤلاء "الخبراء" و"المُثقّفين" و"السياسيين" على أشدّها للتكلّم باسم الله وباسم الشعب وباسم الشباب وباسم النساء وباسم المناطق الداخلية وباسم العدالة، يُنظّرون للانتقال ويُفلسفون التنمية ويخترعون التوافقات ويستنبطون قوانين المصالحة ويُقعّرون المرايا ويُحجّمون العدالة ويقطعون الطرق السالكة ويصنعون الكوادر ويُدرّبون القادة… الخ.
من فوّضهم للنيابة عن الشعب؟ ومن سمح لهم بالتكلّم باسم هذه "الجماعة" أو تلك؟ هل يمتلكون المُعطيات الواقعية للقراءة والاستشراف؟ هل عاينوا ميدانيا تفاصيل المُعاناة اليومية لشرائح من المُجتمع التونسي؟ أم هم يمتهنون وظيفة بيع الريح للمراكب الغارقة والفلايك المُنكسرة مقاذفها؟
لن نبتعد كثيرا عن تونس العاصمة
ولا عن شوارعها الرئيسية، ماذا يعرف هؤلاء الخبراء من "تُجّار الريح" عن الباعة غير النظاميين المُنتصبة "كرادنهم" بين ساحة برشلونة ونهج الجزيرة؟ ما هي الأرقام والمؤشّرات "الكمية" أو "النوعية" التي يستعملونها لفهم هذه الظاهرة ومُعالجة تداعياتها على الاقتصاد والمُجتمع؟ هل سألوا أقراصهم المضغوطة عن وضع هؤلاء الناس (إناثا وذكورا) الشاحبة وجوههم والمرتعدة فرائصهم، وما طبيعة الواقع الذي يُجبرهم على القبول بهذا الوضع اللاّ-إنساني؟ ما الشيء الذي يصبّرهم على معارك الكرّ والفرّ اليومية مع الشرطة البلدية؟ من يقف خلفهم؟ من يُزوّدهم بالسلع؟ من يدفعهم نحو الموت البطيئ؟
أكثر من خمسة عشر سنة ونفس السيناريو يتكرّر يوميا، شاحنة الشرطة البلدية تهلّ في أوّل الشارع من جهة ساحة برشلونة والباعة تنتابهم حالة من الفوضى المجنونة، كلّ يجري نحو مخبأ اعتاد عليه يجرّ "كردونته" أو "الباش" المنشورة عليها سلعته التي يتناثر بعضها في الشارع وبعضها يبقى بين يدي الزبائن… لا يلتفت ولا يُبالي المُفيد أن يهرب من قبضة "الشرطي" ويُنقذ ما قدّر الله له إنقاذه… هو ليس صاحب رأس المال لكنه المسئول على السلعة وما يسقط يُخصم من حصّته.
إنّهم مئات من شباب تونس شاحب الوجه غائر العينين مُدمن دُخّان وأشياء أخرى، جاء من قريته يجرّ فقره الذي حوّلته العاصمة إلى مُعاناة يومية وشعور بالإحباط، جاء يبحث عن الاعتراف فاستقبلته اللاّكرامة. يشتغل طول النهار ليرتمي أوّل الليل في أحضان خمّارة ويُنهي آخره في إحدى الوكالات أو البيوت المهجورة.
ينام هؤلاء الشباب المهمّش ويستيقظ على صراخ "الباندي" الذي كلّفه "الحوت"، متاع المسئول الكبير، بتجميع هؤلاء الشباب وتحويلهم إلى شبكات ترويج "كلّ سلعة" يرمي بها البحر في ميناء رادس، فستق مُلوّث ودخّان مضروب ومعسّل وشلايك وجبايب ولُعب أطفال وأدوات مدرسية و"كلّ شيء بدينار يا مادام"… وما خفي كان أعظم !!!!
هل فهمتم أنّنا خارج السياق؟ هل فهمتم أنّ الشعب العميق من أولاد الحفيانة لا تعنيهم توافقاتكم ولا مُصالحاتكم؟ هل فهمتم أنّ الأحزاب السياسية والهيئات الدستورية ومنظّمات المُجتمع المدني بصدد تدوير الكعك وتكعيك الشأن العام؟