هذه القصّة الواقعية، تفتح أعيننا على مسائل كثيرة، لماذا يرتمي الشباب في أحضان العكري مرورا بعزرائيل المُترصّد بهم في بحر المُتوسّط؟ ما الذي يجعل بعضهم يتّجه نحو الشعانبي؟ وما هي الأحاسيس التي تدفعهم نحو الاحتراق بجحيم الأرض؟
ما طبيعة هذه "الدولة" التي تصهد "رعاياها"؟ هي لا ترعى مصالحهم ولا تُوفّر لهم الحدّ الأدنى من مُقوّمات العيش الكريم وتمنعهم من الحلم وتنتف ريشهم حتى لا يُحلّقوا... تخنقهم وتسدّ عليهم منافذ الهواء... ليحترقوا في بحر اللاّمبادوزا أو يغرقوا في جبل الشعانبي…
سيف شاب في الخامسة والعشرين من عمره، انقطع عن التعليم في سنّ مُبكّرة واتجه نحو التكوين المهني ليتعلّم "صنعة". تحصّل على شهادة في فنّ الطبخ وصناعة الحلويات. لم يُحالفه الحظ في الحصول على مهنة في الاختصاص رغم أنه يقطن منطقة سياحية واختصاصه يُفترض أن يكون عليه طلب في سوق الشغل، لكن أصحاب النزل والمطاعم يُفضّلون عدم تشغيل أبناء الجهة لأسباب يفرضها واقع القطاع وخيارت أصحاب المهنة.
اشتغل سيف "حارسا" بالمناولة في إحدى المؤسّسات العمومية، كان يجتهد وأحيانا يُبالغ في الاجتهاد حتى لا يقع الاستغناء عنه، وكلّما اقترب تاريخ انتهاء العقد يعيش سيف أيّام خوف ولحظات رُعب ولا يتنفّس الصعداء إلاّ حين لا يقرأ اسمه ضمن قائمة المُتخلّين عنهم.
في الأثناء، وخلال ثلاث سنوات من الكرّ والفرّ، وقع استدعاؤه للقيام بواجب الخدمة العسكرية، قال سيف في نفسه "هربت من الغول جاني سلاّل العقول" كيف العمل؟ نصحوه بالتعيينات الفردية، قال لما لا "أضحّي بشهرية عام لكن المُفيد ما نتخلاّش على خدمتي، مُستعدّ نخدم ليل ونهار بلاش فلوس وما تضيعش علي هذه الفرصة".
قدّم مطلبا للجهات المعنية مُعبّرا عن استعداده لمُقايضة الواجب بالحق لكنّ أجابوه بالرفض لأنّه "موش مترسّم" والشهرية "ضعيفة". هكذا قالوا وأظنّه لم يُبالي وواصل طريقه.
في السنة الفارطة ترسّم سيف، وأصبح يتمتّع بشغل قار وشهرية مسمار في "حيط" وامتيازات عينية رغم ضآلتها إلاّ أنّها تمثّل بالنسبة إليه تأشيرة الدخول إلى "الجماعة المُترسّمة" المُعترف بها اجتماعيا ونقابيا.
انتظمت دقّات قلب سيف، وارتاحت والدته واستقرّ ضغطها وفرح شقيقه الأكبر الذي عاش نفس تجربة الخوف والقلق حيث انّه رغم حصوله على شهادة الباكالوريا ودراسته بالجامعة لمدّة سنتين لم يُسعفه الحظّ في الحصول على شغل قارّ ولا حتى "سوجيغات" ممّا اضطرّه للعمل صانع بنّاي (مرمّاجي) مردّدا شعار "خدمة النهار ما فيها عار" و"شاقي ولا محتاج".
اطمأنّ سيف وسمح لنفسه بأن يحلم ... لما لا؟ بعد قلق خمسة سنوات هو اليوم يتمتّع بعمل قار و"مرسّم"... سوف يخطب بنت الجيران (لا أظنّ أنّ والدها يرفض الآن) ويبني بيتا فوق سطح "الحوش" (ستيديو صغير: غرفة نوم لها شرفة وبيت حمّام ومطبخ، المهمّ أن يكون عشّا لحياة بسيطة ودافئة). وربّما يشتري درّاجة نارية عوض تلك الدرّاجة التي أنهكت جسمه النحيف، وقد يعود إلى ممارسة هواية الغطس(تحقّق هذا الحلم ليس من أولوياته).
إنّها أحلام بسيطة وأمنيات صغيرة، رسمها سيف بكدح يمينه وجهد سنوات عجاف، واليوم يبدأ في وضع الحجرات الأولى ليُحوّلها إلى واقع يفترس سنوات القلق والخوف. كان كلّما جمع دُريهمات (شهريتين أو ثلاث) بنا (حيط) أو صبّ (عرصة)، يسير الهنيهة ولا يلتفت إلى الخلف فقط إلى "الأمام" ليتقدّم نحو الغد الأفضل. قرّر ألاّ يخطب إلاّ حين ينتهي من بناء البيت أو على الأقلّ يصبّ "الصبّة". ربما لو يظفر شقيقه الأكبر بشغل يستطيع الاعتماد على والده في مصاريف الخطبة... لما لا؟ ربي كبير…
منذ يومين ذهب سيف إلى مركز الأمن لاستخراج "ورقة" لإتمام إجراءات الترسيم، قالوا له في المركز أنت "مطلوب" recherché !!!!. كيف؟ علاش؟ وقتاش؟ الله اعلم... رحّلوه للمنطقة بمركز الولاية حيث أعلموه أنّه متخلّي على واجب الخدمة العسكرية "مزرتي"... وأنّه مطلوب وسيمثل أمام المحكمة العسكرية بصفاقس. وفي انتظار ذلك يبقى في الإيقاف.
بلغ خبر الإيقاف إلى الأمّ ...انهارت وأخذت تندب حظّها العاثر وهي تكرّر نفس الجملة "كيف غير قولوا لي كيف ما طمعنا بالله الطفل ترسّم"؟ وثار الشقيق الأكبر وصرخ "قلت له ما تصلّيش في الجامع وما تقولش باسم الله قبل الأكل وما تقولش الحمد لله بعد الأكل... ما تقولش ما نقعدش في القهوة وما تقولش ما نتكيّفش وما تقولش نحبّ زوجة متحجبة وما تحكيش على أحلامك للناس...قلت له عيش كما أندادك اسكر وزطّل ... هو ما حبّش يسمعني... تو يلصقوا له تهمة إرهابي... فهمتوا علاش نحب نحرق؟".
يومين والعائلة في حالة وجوم لا أحد يستطيع التنبؤ بما سيحدث أمام القاضي العسكري، والأهل والجيران "واحد يزيد الماء والآخر يزيد الدقيق"... "راهي محكمة عسكرية موش لعبة"... وكلّ يُدلي بدلوه ولا أحد فاهم "الكوع من البوع".
أخيرا مثل سيف أمام القاضي العسكري، وقدّم اعتراض وأطلقوا سراحه وعيّنوا له جلسة ليوم 27. انتهى الجزء الأول من الحكاية - الذي كان من الممكن أن يبدأ وينتهي بأقلّ "إرعاب" - ويبقى جزء ما بعد جلسة يوم 27. لم يعد هناك قانون "التعيينات الفردية" ولا حيلة لسيف ولا قوّة لأهله... ما العمل؟ في الأثناء يعود سيف وعائلته إلى القلق والخوف.
هذه القصّة طبعا لا تحدث إلاّ لأبناء "الشعب العميق" من أولاد "الحفيانة". لأنّهم وحدهم يدفعون فاتورة الوطن دون أن يحملوا صفة مُواطن. مراكز الأمن فُتحت لاستقبالهم والمحاكم شيّدت ليمثلوا أمام قضاة العدالة "العرجاء"... الألم والوجع لهم وخيرات الوطن لغيرهم.
لست من المضادين لواجب القيام بالخدمة العسكرية ولست من المُنادين بالتخلّي عن هذا الواجب... ولكنّني من المُطالبين بالعدالة والإنصاف وبالمساواة أمام القانون وأمام الواجب. الوطن يحميه أولاده ويذود عنه الشرفاء من أبناءه، حتى من خارج المؤسّسة العسكرية والأمنية، هؤلاء الشباب، من أبناء المناطق الحدودية، مُجنّدون بفعل الواقع وليس بقوّة القانون وصدورهم مكشوفة ليل نهار أمام رشّاشات أعداء الوطن الحقيقيين والافتراضيين... هم يحبّون الوطن كما لا يُحبّه أحد، ويثبتون ذلك كامل أيّام الأسبوع وعلى مدار السنة بالفعل وليس بالنثر أو الشعر،... هم لا يُتبعون حبّهم منّا ولا أذى ولا ينتظرون ثمنا ولا عطاء... هم فقط يريدون حقّهم في حياة كريمة فاتركوا لهم خرم إبرة يتنفّسون من خلاله بعض الهواء.