الريشة التي أبكت والد عيلان كردي…

Photo

تبّا لكهنة المعبد !!!!

الصورة مؤلمة وموجعة ومهينة إلى حدّ البكاء... هكذا رأتها عين والد عيلان، الطفل السوري الذي قذفته أمواج البحر على شاطئ المُتوسّط.

عيلان ذاك الطفل السوري الهارب صحبة "غالب" و"ريحان" من جحيم الأرض إلى برد السماء. عيلان لم يترك وصية فهو لم يدرك بعد معنى الكتابة ولا جدوى الكلام. فقط ترك صرخة طفل اخترقت ظلمات البحر... وصورة !

إذن لماذا يُصرّون على الاقتراب من عيلان وكتم الصرخة وتدنيس الصورة؟ أللتشفّي أم لتخفيف الذنب؟ كثيرة هي صور الذين غرقوا وتجاهلتهم ريشة الساخرين من كهنة معبد "شارلي"... لكن لماذا الطفل عيلان؟ أوليس إعراض بعضنا عن البحث في هذه الأسئلة وعن الاجتهاد في استنباط الأجوبة هو انحياز عن قيم "الإنسانية"؟

Photo

الأكيد أنّنا لم نكن لنعود إلى فكّ شفرات صورة عيلان والإنصات إلى رمزية صرخته المُتمدّدة لو لم يكن لفعل الكهنة التكفيريين صبّا للملح على جرح غائر.

عيلان الطفل الأسطورة مرّ من ضفة "العادي" إلى ضفة "الاستثنائي" بتجرّعه مرارة ملح البحر وتكبّده صعوبة العبور رفقة والدته وأخيه. لم يكن عيلان يعلم أنّ الموت ستمنحه وسام البطولة وأنّ البحر سيجعل منه طفلا استثنائيا. هو في الحقيقة لم يرغب ولم يسعى إلى أن يكون طفلا استثنائيا لأنه لم يبلغ سنّ الحلم ولم يُدرك بعد معنى أن تكون بطلا في زمن المعارك الوهمية. لكنّ موتا جماعيا على متن قارب نجاة وصورة التقطتها عدسة كاميرا عابرة حوّلته إلى الطفل الأسطورة.

أًلم والده ووجعه لم يشغل كثيرا السياسيين لأنهم مُهتمّين بتوظيف الصورة، واستثمارها في سوق النخاسة والبؤس العربيين، وهي كذلك لم تُثر غضب المُحلّلين لأنّهم مُنشغلون بمراقبة منسوب حبر دم عيلان الذي قد يجفّ دون الانتهاء من كتابة مقال عابر أو رسم موقف مُرتجل. أمّا الفنّانون والمُبدعون فصورة الطفل الاستثنائي ألهمتهم سيناريوهات هم بصدد مسرحتها.

ورغم رداءة المواقف وبؤس المشهد فإنّ أغلبنا لم يتوقّع أن تكون صورة الطفل عيلان موضوعا للهرج والمرج وأن يكون دمه حبرا يستعمله أصحاب "الأقلام الحرّة" للسُخرية الغبية والرسومات المُقزّزة. عادة ريشة الفنّان تروي ما وراء الصورة لكن أن تتنبّأ بما أمامها فهذا يعكس بؤس الريشة ورداءة عقل الفنّان . إنّ دور ريشة المُبدع أن تقفز بالصورة من عراء المشهد المُباشر إلى كثافة المعاني غير المكشوفة، لأنّ كبار الفنّانين والمُبدعين يعلمون أنّ دورهم ليس رسم الحقائق ولكن تسطير السبل إلى اكتشاف المعنى، أليست السبل إلى المعنى بعدد أنفس الخلائق؟

إنّ الكاريكاتير الذي رسمه فنّان "شارلي هبدو" وبناه مُتخيّلا مُستقبل عيلان لا يعكس صورة الطفل عيلان الكردي وإنّما هو إسقاط لصورة الفنّان "اللاّإنسان" في زمن أطفال سوريا الاستثنائيين. الأكيد أنّ الأطفال من أمثال عيلان كردي ومحمد الدرة لا يتحوّلون إلى أبطال إلاّ بتجرّع صعوبة الموت وعناء من التقط لهم صورة وبثّها على المُباشر، وأنّهم لا يرتقون إلى عالم المُقدّس إلاّ بقرار مُؤلم، لكنّ الأكيد كذلك أنّهم يبقون مهدّدين بالإرجاع القصري إلى اللاّبطل أو "المُدنّس".

إنّ قرار العبور كما قرار الإرجاع يتحكّم فيهما أرباب "الأقلام الحرّة" من كهنة معابد الأنوار ومُبدعي القيم الكونية. هؤلاء الكهنة يعارضون تعرّج الوقائع وانعطاف التاريخ دون هديا منهم. إنّ حرّاس معابد الثقافة الغربية يستبطنون صورة مُدنّسة للآخر المُغاير ثقافيا وحضاريا، ولذا هم يرفضون لاشعوريا بناء أي صورة "مُقدّسة" للطفل الذي ينتمي إلى ثقافة الآخر. صحيفة "شارلي هبدو" تمثّل إحدى معابد الثقافة الغربية، وفنّانوها ومُبدعوها يشكّلون كهنة محاكم التفتيش التكفيرية، وهم يُصرّون على تكفير عيلان وتدنيس بطولته بإرجاعه إلى أفقر صوره "مُعاكس النساء".

إنّ الطفل عيلان شخصية رمزية استثنائية بُنيت من خلال صورة وقع تداولها عبر آليات الدوت كوم الفايسبوكية. رموز الصورة وشفراتها تحدّت الثقافة الغربية السائدة، ذات الآليات العاجزة على فكّ رموز المشهد أو التعليق عليه إلاّ من خلال موقف فكري سياسي مأزوم تجاه ثقافة "الآخر". الكاريكاتير الذي أبكى والد عيلان ليس سوى اسقاط والتباس لواقع يجهله كهنة معبد "شارلي" المغموسة أقلامهم في دم يعلان ، نعم أرادت ريشة فنّان حداثي "تكفيري" تثبيت دناسة الواقع وتأكيد همجية المشهد وتعويض صورة بطل استثنائي بصورة طفل عادي. ولسان حاله يقول مُبرّرا بشاعة المشهد "هكذا تُصبح الصورة انعكاسا لواقع مُدنّس ويكون الطفل العربي مُجرّد هامش داخل هذا الواقع…".

ليكن !في جميع الأحوال، ورغم فتاوى كهنة التكفير الحداثي، لم يبق من عيلان وأترابه من أطفال سوريا وغزّة الاستثنائيين غير الصورة التي أرادها مُبدعو الدوت كوم فكانت واقعيتها أكثر وجعا من الواقع. نعم بقيت في الأذهان صورة الطفل الإله، إله خرج من خواء البحر ناظرا إلى الحاضر بظهره ومدبرا بوجهه عن المُستقبل… إلى أين كان يتجه هذا الإله؟ إلى جحيم الأرض أم إلى نعيم السماء؟ إلى باب النجدة أم الخروج النهائي؟ إنه ولّى ظهره إلى جحيم الدنيا الذي لم ينج من لهبه حتى الموتى الاستثنائيين والآلهة المُترفّعين عن ثقافة حرّاس المعابد الخاوية على عروشها. تبّت ريشة كهنة المعبد وتبّوا…

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات