للمرة الثانية على الأقل يتم التصريح بإمكانية تغيير تونس الى أحسن من خلال "جرّة قلم"، وللمرّة الثانية على الأقل يمرّ هذا التّصريح بدون تساؤلات جديّة لا من قِبل المُحاورين والإعلاميين (حيث العديد منهم كالعادة لا يستعدّون للحوارات ولا يطلعون على مناقب الإصلاحات والرهانات الرئيسية التي تواجهها البلاد)، ولا من قِبل عُموم الناس -من خلال شبكة التواصل- الذين بالعكس يرى أغلبُهم في ذلك رؤيةً ثاقبةً وكفاءةً لافتة.
ولئن أُريدَ من "جرّة القلم" الإرادة في التغيير والمضي قدما في قرارات حازمة وسريعة لتهيئة مسبح بلدي، أو صيانة فضاء ثقافي أو اشراك الشباب والخواص في بعض الخدمات العامّة أو بناء مقر عوض تأجيره، أو التفويت في كاميرات المراقبة بالطريق العام أو في الأراضي الزراعية غير المُستغَلة، فإنّ ذلك قد يبدو معقولا "نظريا" وسهل المستصاغ من غير المتخصصين، حتى ولو أنّ تنزيلَه في الواقع يصطدم حتما بإجراءات مُعقّدة ويحتاج الى ترتيبات بيروقراطية ونظامية قد تأخذ وقتا وتحول دون إنجازها تحت عنوان "جرّة قلم".
فتسهيل الإجراءات المعمول بها حاليا يحتاج الى الرفع من القدرات المؤسسية وإصلاحات وقوانين جديدة بما تفرضه من مراسيم ونصوص ترتيبية إضافية إذا تعلّق الامر بالقطاعات الكُبرى مثل الأراضي الدّولية، وإعادة النظر في نطاق تدخل البلديّات والجماعات المحلية إذا تعلّق الأمر بالخدمات العامة المُزمع اسنادها الى الخواص.... لذلك تُصبح "جرة القلم" محدودة النطاق، محدودة العُمق، محدودة الفعل، ولا يمكن أن "تتغير تونس" من خلالها بالرغم من أنّها أفضل من لاّ شيء.
وأمّا إذا أُريدَ من "جرّة القلم" هو اجراء الإصلاحات الهيكلية التي تحتاجها تونس في هذا الظرف حيث تراكمت التحديات وتضاءل أداء المؤسّسة العامة وبات الخطابُ الرسمي رتيبا، منحرفا عن التجارب العالمية وعن المراجع الأساسية في الشأن، فإنها (أي جرّة القلم) تصبح كلمة بدون محتوى، ليس هناك فرق بينها وبين "الحملة التفسيرية" و "الشعب يريد" وغيرها من التوليفات اللغوية التي ليس لها وزن وخارج متطلبات الواقع الحالي الذي يزداد تعقيدا؛ متطلبات الانتقال حيث وضعُ أيّ اصلاح – مهما كان– انما هو خاضع للمُقاومة ضد التغيير من الواقع نفسه ومن المسيطرين على توزيع الريع الاجتماعي ومن مجموعات الضغط الداخلية والخارجية.
وقد وددت أن يسأل المُحاورون الوزيرَ السابق عن المنهج الميداني والفعلي لتطبيق "جرة القلم" في هذا الإطار، اذ تفيد التجارب والادبيات في الشأن أنّ وضع الإصلاحات الهيكلية اللازمة يتصاحب باستراتيجية تنموية متكاملة، حيث تكون كاميرات الطريق العام والتفويت في بعض الخدمات العامة جزئيات. فتونس ليست شركة لإنتاج السلع وتعظيم الأرباح وتقليل التكاليف، والقطاع العام ليس آلية لإعادة انتاج نفس "مفتاح التوزيع للريع".
وأمّا اذا أريد من "جرة القلم" إجراءات ضمنية متواصلة، محدودة النطاق، ولكن عميقة التأثير تستهدف تغيير السلوك الاجتماعي مثلما ذهب اليه صاحب جائزة نوبل في الاقتصاد ريتشارد ثالر (2017) الذي ربط بين علم النفس الاجتماعي وعلم الاقتصاد في تغيير السّلوك الجمعي نحو أكثر عقلانية، فان "جرة القلم" كما تمّ التعبير عناها تبدو خارج السياق.