في حديث مع صديق "اقتصادي" حول الميزانية العامة، انطلقتُ من ضيق هامش المناورة، اي الحيز المالي (Espace fiscal)، وأردتُ ان أُبيّن أسبابه وعلاقته بالهشاشة الماكرواقتصادية ذات الأصول المتعددة والمتشعبة... فقاطعني بحماس ولكن في حدود الاحترام، وظننتُ انه سيثير نقاشًا قائمًا على منشور علمي جديد في المسألة.
لكنّه أخذ يروي قصة "انتدابات الترويكا في الوظيفة العمومية، "وكُتلة الأجور"، و"الاستيراد من تركيا، والكاجو والكاكاوية"، و"الأموال الطائلة والاحتياطات من العُملة الأجنبية التي كانت في حوزة البنك المركزي "، والمدينة الفاضلة قبل 14 جانفي التي يروّج لها المبشرّون بالعودة الى حِقبةٍ مَضتْ ولن تعود، والذين الى حد الآن لم يُعلنوا عن بدائلهم الجدية لانقاض البلاد.
فأوقفتُه بلُطفٍ سائلًا: "كيف لك ان تتحدث خارج مناهج علم الاقتصاد الكُليّ؟ هل من المعقول ان تكون مآسي البلاد كلها منحصرة في كتلة الأجور وتوريد الكاكاوية؟ هل من المعقول ان يكون العجز الثنائي مع بعض البلدان هو السبب في عجز الميزان التجاري المُزمن والدين العام غير المستدام؟ ألا تعلّمنا النماذج الاقتصادية والتجارب العالمية أنّ تونس ليس لها القدرات الاقتصادية من اندماج قطاعي ومن رواد مشاريع على معنى شومبيتر، بأن ترفع الحواجز التجارية مهما كان "الذكاء" الذي يدعيه غير المتخصصين؟
فان لم تأتِ الكاكاوية من تركيا فإنها ستأتي من فرنسا أو ايطاليا، وان لم تأت اللّعبُ من الصبن، فإنها ستأتي من بلد آخر. وإن ارتفعت الحواجز الجمركية على بضاعة واحدة مهما كان المصدر، فان مرادفها سيأتي أضعافا ّ هل لك فكرة عن العجز التجاري والدّين الخارجي لأعظم الاقتصادات في العالم والذي يتجاوز الناتج المحلي الاجمالي، لكنه مُستدام؟ ألا تعلم ان مقارنة جل المتغيرات في الاقتصاد الكُلي تفقد معناها كلّما اتسع المجال الزمني للمقارنة؟ كأنْ تقارن الاحتياطي من العملة قبل خمس أو عشر سنوات بمعزل عن نسبة الفائدة في تونس وفي الخارج والتضخم في تونس وفي الخارج والعجز التجاري ومؤشرات الاسعار النسبية العالمية عند التبادل، وتغيير خريطة الاختصاصات في العالم وواقع الدول المجاورة؟
ألا تعلم ان السياسات الاقتصادية والتنسيق بينها في إطار استراتيجية متكاملة من عدمها هي الأساس في الحديث عن واقع الاقتصاد؟ ألا يجول بخاطرك أنّ التقييم الموضوعي والعلمي لكافة السياسات الاقتصادية والنقدية ورهاناتها منذ عام 2011 لم تتمّ بعدُ بالعمق والشمولية اللاّزمتيْن؟ أريدُ مقالا علميا واحدا في مجلة أكادية مُحكمة ومُحترمة!
قال لي، "فُلان قال إنّ كتلة الأجور هي السبب". فقلت له ساخرا "سامح الله كتلة الأجور" التي جعلت من النكرات خبراء، ومن المتطفلين صُناع رأي، ومن بعض المرتزقة زعماء ومن تونس مسرحا للشعوذة الاقتصادية. دعْك ممّا قاله زيْد وعمرو". "أنتَ الأستاذ في علم الاقتصاد، حان الوقت أن تخلع رداء الوهن وأن تجعل سنوات عمرك المقضية في اختصاصك في محك النقد وأن تبادر بالرأي في الفضاء العام بما أوتيت من علم ومن نزاهة وشجاعة.
فالطبيعة تأبى الفراغ والحياة قصيرة كي نقضيها في التعليق عمّا قيل ونتحمّل تبعات غيرنا في نفس الوقت.