اذا لم تكن الأيديولوجية أفكارا مجرّدة للنقاش ولا وجهات نظر عقلانية وإنما هي الجزء غير العلمي من الخطاب، وهي بالتالي محتوى الاغتراب الاجتماعي كما جاء في أدبيات ماركس (أو هيجل الذي يعتبرها "استلابا")، فإنّ “صراع الصّراعات" (Conflict of conflicts) على معنى شاتشنيدر (Schattschneider)في كتابه المرجع " الشعب شبه-المستقِلّْ"(The Semi-Sovereign People)، هي استراتيجية تعتمدها الأحزاب الناشئة في صراعها من أجل الانتشار أو البقاء في المشهد السياسي، باستحداث ثنائيات ضمن القضايا الاقتصادية والاجتماعية واعتماد تسييسها حتى ولو لم تكن قابلة للتسييس.
فقد عمدت بعض الأحزاب في تونس تسييس مجابهة جائحة الكورونا، واستيراد التلقيح، ومؤتمرات صحفية لبعض الجمعيات، وقراءة الفاتحة على أرواح الشهداء، والاجتهاد في الدّستور، والدفاع عن حقوق الانسان، ومحاربة الفساد، وغيرها من المشاكل التي تحتاج فقط الى آليات مؤسسية وقانونية للحسم فيها.
ويعوّل الحزب صاحب أجندة "صراع الصراعات" مثل "الحزب الدستوري الحر" ذي مرجعية النظام الاوتوقراطي على اهتزاز ثقة المواطن في القائمين على الشأن العام وعلى عدم اتاحته الفرصة لمتابعة حيثيات ما يجري في البلاد من تحالفات ضمنية أو موضوعية (على معنى عصمت سيف الدولة). وتهدف عادةً هذه الاستراتيجية السياسية اكتساح الفضاء السياسي من خلال "صراعات" مُستحدثة تُبوّئ الحزب موقعا في قلب الاحداث وبالتالي محور الصّراعات وجلبة للانتباه.
فترى هذا يدافع والآخر يعارض وبالنهاية يحصل الحزب -صاحب هذه الاستراتيجية – على نصيب من المتعاطفين والناخبين المُحتملين، لم يكونوا منخرطين فيه. ويصبح هؤلاء أبواقا بالوكالة لفائدة الحزب الذي يراهن على ردّة فعلهم وقلة اطلاعهم وحسن نواياهم وحداثتهم في الفعل السياسي وخيبتهم. فيصبح البلد معتبرا مهدّدا بكل المخاطر، أي بانهيار الدّولة، أو بفقدان مكتسبات الدّولة الوطنية، أو غيرها من الشعارات الفاقدة للبرهنة العلمية المحضة.
ولو خصّصنا لكل منها دقيقتيْ تفكير عقلاني، لطالبنا الحزب المعني بهذه القراءة القاتمة للواقع التونسي بحلول وبرامج ووحدة وطنية وتقوية الدولة واحترام مؤسّساتها وعدم النيل من هيبتها، لا التبشير بالقحط، والتهديد بمستقبل أسود والتباكي على ماض لن يعود، والتظلم لدى مريديه ولعب دور الضحية وافتعال الانجازات الواهية التي لا تمر الاّ لدى المُكبّلين بأخطبوط الأيديولوجية.
وقد يلجأ الحزبُ الى تغييرٍ في جدول أعماله بما تفرضه الاحداث والتحالفات وضرورة التعبئة Birkland))، خاصة عند :
(1) حدوث أمر واسع النطاق، مثل الاغتيالات السياسية والعمليات الإرهابية في تونس عام 2013 التي كانت فرصة لتعبئة الناخبين واستثمارها من قبل كلّ المعارضة أنذاك وبعض أحزاب الموالاة والحال أنها كانت تحتاج الى ترصيص الصفوف والى الوحدة الوطنية، أو
(2) استباق تغيير موازين القوى الوطنية او الإقليمية باستحداث تصادم عنيف بين الحزب الدستوري الحر، وائتلاف الكرامة والسّلطات الأمنية (لا اريد الحديث عمّا وقع لأنني أعتبرُه على الاقل في خانة "صراع الصراعات" من اهم المتداخلين السياسيين فيه بتلك الطريقة، بما في ذلك بعض الإعلاميين الذين فاجأوا الناس باطلاعهم "الدقيق" على كتب بن تيمية) ومن ثمّة، يُمكن فهمُ المنافسة الحزبية من خلال مبدأيْ "الهيمنة" و"التشتت" الذيْن طورهما "ريكر (Riker)والذي حسب ما نعلم تواضعا كان أول من استخدم "نظرية اللعب (Game Theory) في ديناميكية الأحزاب السياسية، وابتدع فيها ميدانًا سمّاهُ " الهيريستيزيا" (Heresthesia) وهو فن استغلال وتوظيف المواقف الكامنة لدى الجمهور (أو ما يُسمّى عادة بالأغلية الصامتة) حتى يصبح الخاسرون المحتملون فائزين.
فأمّا "مبدأ الهيمنة" فهو يحدث عندما يهيمن حزبٌ ويستحوذ بطرق اتصالِهِ على موضوع معين (مثل "محاربة الفساد"/حزب التيار الديموقراطي، أو "محاربة الفقر" /قلب تونس، أو “الثروات البترولية"/ائتلاف الكرامة، الخ) – وهذا يُسمّى "الهيمنة بالحجم (Size Dominance) ، لأنه يضع الحزبَ المعنيّ به في محور الاهتمامات–فيتخلى الطرفُ الآخر عن النداءات حول هذا الموضوع.
وفي بعض الأحيان يحتجّ الحزب المهيمنُ على الموضوع، على اثارته من حزب آخر، بالتذكير بانه هو صاحب الفكرة أو المبادرة! وأمّا "مبدأ التشتت"، فإنهُ يتعلّق بحالةٍ لا يهيمن فيها بالحجم أيٌّ من الحزبيْن المتنافسيْن في الصراعات، عندها يتخلى عنه الطرفان (مثل قضية المحكمة الدستورية خلال الفترة 2014-2019).
ففي السنوات الأخيرة لم نشهد ابداعا برامجيا من الأحزاب المُستحدثة والتي صعدت بسرعة بقيادة شباب بدون رصيد معروف، اعتُبروا فجأةً قياديين في الفضاء العام ما لم يكن مُتاحا الاّ "بأجندة صراع الصراعات"، ذلك أنّ تصريحاتِهم اليومية لا تكاد تخلو من التهجّم على الأحزاب المنافسة في إطار الثنائيات المذكورة أعلاه. وبقدر ما استثمر الحزب في صراع الصراعات (خاصة الدستوري الحر وأقل منه التيار الديموقراطي بمعزل عن المستقيل، الشواشي)، بقدر ما كانت برامجه هشة واهتماماته بالمواطن هامشية، وبقدر ما استعصت عليه عملية التوسع والبقاء وفي أفضل الحالات، إعادة انتخابه.
أخيرا، لا يضمن بقاء الحزب السياسي لا التحالفات الواسعة، ولا صراع الصراعات، بل البرامج والقرب من قضايا المجتمع حتى ولو لم تكن ذات مردود سياسي في الاجل القصير.