ما الفرق بين بن علي الذي لم يتحصل على الباكالوريا حين أمرَ في شريط الانباء الاستاذَ الدكتور منجي صفره المتخرج من جامعة ميتشغان بتسجيل رقم ثلاجة قديمة عالقة بالديوانة ذات زيارة "فجئية" الى ميناء رادس، وقيس سعيّد حين يجنّد (احتمالا) مستشارين للبحث عن كلمة زائدة او ناقصة بين دستور 1959 ودستور 2014 بدون الرجوع الى تسجيلات المداولات حين كتابة الدستور حتى يتيقّن من فهمه اللغوي لما جاء فيه ومقاصده في ذلك التاريخ بالذات؟
قد تكون النوايا بريئة وهذا يحتاج الى تفصيل عندما يتعلق الامر بالسياسيين. ولكن إذا كانت النوايا دون ذلك، فلماذا لا يتقدم السعيّد بمشروع قانون ترتيبي يفصّل الاختصاصات بين السلطات بعد ان يحفّز مسار "احداث" المحكمة الدستورية حتى يكون في حلّ اخلاقي وعلمي من كل التداعيات، ولا اقول "ارساء" حتى لا يفهم البعض ارساء "السفن والبواخر والزوارق والهمّ لزرق والبهامة اللي بلانا بيها ربي".
ولو فرضنا ان الامر لغويٌّ بحت، فلماذا كل هذا التشنّج المفرط والنبرة العالية التي لا تزيد الا تشنجا وفقدانا للبصيرة وترذيلا للدولة ولمؤسساتها؟ فكل المتخصّصين بالآداب هم اناس ذوو الحس الرهيف والذوق العالي، يرتقون بالمعاني وهم انسانيون أكثر من السواد الاعظم، يتقنون اللغة وخباياها ويعرفون وقع الكلمة ومعانيها وابعادها وينطقونها بفنّ وتمعّن.
فهل يعلم المنفرد بالمعرفة واصولها والعالم بأمره ان معاني الكلمات تختلف وفق سياقاتها؟ الا يعلم ان كل علم يخضع الى مناهج خاصة به؟ اليس حريا به ان ينتبه الى اختلاف معنى المنجد للكلمات عندما تتحوّل هذه الاخيرة الى "مفهوم" يتطور محتواه من فترة الى اخرى، وهو معطى اجتماعي في جوهره؟
فكلمة "استاذ" مثلا انما تعني في اصولها اللغوية "المحترم" من الفارسية، ثم اصبحت تعني "المدرّس" ثم أصبح محتواها في تونس بداية من اواسط التسعينات" موظفا بالمؤسسة التونسية للتعليم" ثم فقدت كل معانيها لتصبح "بروليتاريا" حين أصبح الدكتور مهمّشا ويقوم بإضرابات الجوع في زمن عزت عقلانية الكم على عقلانية الكيف.
وكلمة " رجل الدولة"، التي تعني اسبقية مصلحة الدولة على المصالح الحزبية الضيقة والمناورات الشخصية والمصالح الذاتية، اصبحت تعني شيئا من السطو على الحكم وتغيير الواقع لغايات قد لا تتلاءم مع مصلحة الدولة حتى إذا كان الخطاب عكس ذلك في ظل اهتزاز ثقة المواطن بالدولة.
ثمّ ما الذي يدفع الرئيس الى هذا المنحى الغريب في طرح القضايا الاجتهادية الدقيقة امام شعب لم يأمن قوته ولا أمنه ولا مستقبله، حتى لا يتقدم بملفات فساد الى القضاء وبخطاب يجمّع التونسيين لا يميّز بينهم، وبمبادرات تساهم في الاستقرار الاجتماعي لا اهتزازه؟
"يؤثّر الملاحظُ بالضرورة على ما يلاحظُه" (غاستون باشلارد).