يتساءل الكثيرون عن دواعي انخراط عُموم الناس -وليست النخب السياسية فقط التي امرها تحليله في المتناول، والتي لها اجندات مدفوعة بالايديولوجيا والمصالح وكذلك شرعية الوصول الى الحُكم- في مواقف واختيارات ليسوا هم من بادروا بها وقد لا تخدم مصالحهم. وبالرغم من ذلك يبذلون قصارى جهدهم في الدفاع عنها، وقد يطال انخراطُهم فيها المكتسباتِ الجماعيةَ وحتى ذوات الاشخاص، الى ان تصبح قضية "مصيرية"، بل وجودية، بدون الالتفاف الى اهمية السلم الاجتماعية والعيش المواطني الموحد ذي المصير المشترك…
وبقطع النظر عن الحالات المزاجية التي تسود سلوك عموم الناس اثناء الازمات او الحروب او الاوبئة والتي يمكن ان تغير مسارات حياتهم بصفة لارجعية، فقد افاد التاريخ والادبيات والواقع ببعض العناصر لفهم هذه الظاهرة الاجتماعية التي تكاد لا تخلو من كل المجتمعات :
- تفاسير قديمة، ولكن تبدو حديثة :
(1) "خروف بانيرج" (Mouton de Panurge) الذي اشتراه صاحبه بثمن مرتفع اثر رفض الراعي تخفيضه، والذي اخذه صاحبُه الى حافّة النهر ودفعه، فاتبعت كل الخرفان ذلك الخروف والقت بنفسها في النهر. فخسر الجميع ظنًا من كلٍّ منهم انه منتفعٌ.
(2) التفاسير الكلاسيكية وكانها لا تزال حديثة :
"الاستلاب" عند هيجل او "الاغتراب" عند ماركس، وهو ان يفقد الفرد جزءً من كيانه لفائدة أمر ما او هدف ليس بالضرورة عقلانيا. فيأخذ من فكره وعواطفه وبالتالي من إرادته الى ان يصبح سجينًا طيّعًا له. فيدخل في صراعٍ دراماتيكي بدون ان يبالي بمخاطر فقدانه لذاته.
فالقِرْدُ في ادغال افريقيا كان الصيادون يضعون له موزا في قفص، فيأتي القردُ ويدخل يده من بين قضبان القفص، ثم يستعصى عليه اخراج الموز، فيدخل في صراع غير حقيقي الى أن يأتي الصيادون فيقبضون عليه (خ. منوبي). فما ارتمت أجملُ فتيات مصر في النيل الا ارضاءً للآلهة، وما جاب بنُ بطوطة اصقاع الارض الا للتغني بولاّدة، وما وهب الجنود الصليبيون حياتهم الاّ ارضاءً للكنيسة، وما سالت دماءٌ في الحقبة الريعية من تاريخ العرب الا ارضاءً للقبائل والانتماء العصبي والدموي (بن خلدون)، وما وهب القُرصان والجيوشُ الانكشارية حياتهم الا خضوعًا لمتطلبات "السلعة".
ولكن، يجد الفرد نفسه بين القبول بوضع "الخنوع والقنوع والرضا بالدّون" فاقدًا كيانه لفائدة اجندة معقدة فيها الجيواستراتيجي، والايديولوجي، والاقليمي والمخابراتي، والاقتصادي، او ان يعمل على استرداد كيانه بالاحتكام الى عقله وتطوير ادراكه ليصبح متحررا واعيا بواقعه وفاعلاً فيه والاّ فانّه سيذهب مع المُعدمين، ويصبح يرى الانتكاسات نصراً تحت شعار التراجع التكتيكي، والخسارةَ ربحًا تحت شعار ردّة الفعل، والماضي الذي لن يعود كإحياءٍ لذكرى الذي لن يموت. وفي هذا الامثلة كثيرة جدّا. فإثر عودة نابوليون مهزوما من مصر، دخل باريسَ كالزعيم المنتصر ورُفع له قوي النصر وأغاني الوطنية واعتُمد تفسير التاريخ بعلامات الابراج والنجوم، ولكن كانت نهايته تعيسة في المنفى.
(3) التفسيرات الحالية والحديثة :
اقرّ علماء الاقتصاد التجريبي ( ر. ثالر، نوبل 2017) بالنقائص التي تشوب النظريات المهيمنة من انّ المتعاملين الاقتصاديين "عقلانيون". ذلك انهم لاحظوا ان سلوك الناس في العديد من البلدان لا يخضع بالضرورة الى شروط العقلنة في مدفوعاتهم واستخداماتهم واستهلاكهم. وما المصاريف غير المعقولة لدى الاجراء مثلا الا دليل على نقص العقلانية.
ولذلك كان من الضروري ان تتدخل "جهةٌ ما"، كالدولة مثلا للارتقاء بوعي عموم الناس وتوجيهه الى "العقلانية" في سلوكهم من خلال "الثورات الناعمة" التي تتجه الى نفسية الناس والتي تبدأ بالمدارس الى مراقبة الفضاء العام والى تكوين جيل لا تنطلي عليه بسهولة التأثيرات التقليدية البالية ولا مناورات المناوئين.