قد لا يروق لبعض الأصدقاء ....
في عملٍ بصدد الاعداد باحثا في احدى فُصوله عن العلاقة في تونس بين (1) التشكيل الحزبي و(2) بناء الدولة و(3) مسالك البحث عن الريّع، تبيّن لي - باختزال شديد- (1) أنّ هذه العلاقة كانت عائقا أساسيا في التأخّر عن الإنجازات المُرتقبة وما تبِعه من اهتزاز الثقة تُجاه النخب السياسية وصُعود الأصوات الشعبوية، و(2) أنّ العلاقةَ السببية هي من استهداف "البحث عن الريع" نحو "التشكيل الحزبي" ثم الى "بناء الدولة وسبل تقييدها/ارضاخها"، و (3) أنّ أهم ملامح النخبة السياسة الحالية تتمحور حول الآتي:
لعبت الأيديولوجيا (كونها محتوى الاغتراب الاجتماعي) في فضاء متّسع من الحريات، دورا محوريا في تحديد مسار الانتقال الديموقراطي في تونس مبعثرةً الأولويات ودافعةً نحو نفي الآخر عوضًا عن محاورته ومُقارعتِه. إلاّ أنّ المتمعّن في ملامح أصحاب هذه الأيديولوجيات (أتحدّث عن الشخصيات المتحزبة وليس المثقفين والأكاديميين والباحثين) التي يعود عهدُها الى منتصف القرن الماضي على الأقل، أنّهم :
(1) لا يُولون اليها اهتماما حقيقيا. إذ أنّ الأحزاب اليسارية لا تبدو متشبّثةً بالمرجعيات الماركسية في برامجها الاقتصادية والاجتماعية ولا في خطابها ولا في تحالفاتها، وكذلك الشأن بالنسبة الى الأحزاب ذات التوجّه العروبي القومي حيث لا أذكُر علامة فارقة في فعلهم السياسي المرتبط بمرجعياتهم سوى بعض العابير مثل تعليق صورة عبد الناصر في مقرّ الحزب أو التعاطف غير المشروط مع نظام الأسد الحالي، ولا الإسلاميين السياسيين الذين ندر رجوعهم الى القرآن والادبيات الإسلامية في تعاطيهم مع الشأن العام، وكذلك "الأنتلجنسيا" اللبراليين الذين يُقدّمون آليات السّوق باحتشام في نسختها البدائية الراجعة الى القرن الثامن عشر.
(2) يُلبسون أغلبية الناس من الشباب المولودين بعد الثمانينات رداء هذه الأيديولوجيات في حين انها ليست من اهتماماتهم وليسوا طرفا في معاركها.
والانطباع الحاصل (أقول "انطباع"، أي يحتاج الى البرهنة) هو أن رواد الأحزاب السياسية اليسارية من الجيل الجديد لم يقرؤوا ماركس، وأمثالهم من القوميين، لم يطّلعوا على عصمت سيف الدولة، والإسلاميين لم يجتهدوا في القرآن، والليبراليين لم يدرسوا على الأقل " الاشتراكية، الرأسمالية والديمقراطية" لشوميتير.... ذلك أنّ هذه الأحزاب/التيارات السياسية لم تنجب أمثال "روزا لكسمبورغ" مؤسّسة الحزب الشيوعي الألماني وقد يكون ذلك ناتجا من عوامل اجتماعية وثقافية (يحتاج الى تفصيل)، ولا "علي شريعتي" مُنظر الثورة الإيرانية، ولا "ميشال عفلق وصلاح بيطار" منَظِّرَيْ حزب البعث، وقد يكون ذلك ناتجا من عدم تعبئة هذه الأحزاب للمُفكّرين المحلّيين، مع أنّ أغلبية هذه المرجعيات أصبحت علميا باليةً في زمن حديث يتميّز بتحوّلات سريعة في المجتمعات وفي بناء شخصية الفرد....
لذلك كانت العُروض السياسية متجانسةً بين الأحزاب، وقد أجرُؤُ على التنبّؤ بملامح البرامج الاقتصادية والاجتماعية للاستحقاق الانتخابي القادم. فالفوارق بين الأحزاب في عرضهم السياسي ليست جوهرية. فلا أرى فرقا بيّناً بين اطروحات اليمين واليسار، ذلك أنّ عدم التمايز بينها يسمح بالسياحة الحزبية والصراعات حول هوامش القضايا واستهداف الخصم في كيانه، والمثول عند ضغط المجموعات الباحثة عن الريع، وإعادة توليد نفس المقاربات التقليدية في التعاطي مع الشأن العام وفي السياسات الاقتصادية والاجتماعية المتعلقة بـــ :
(1) التخطيط، و
(2) بناء الميزانية، و
(3) السياسات النقدية والنظام المصرفي، و
(4) السياسات الخارجية، و
(5) نظام التعليم، وغيرها.
فَفَقَد الخطابُ السياسي عُمقه واقتصر على رؤوس أقلام برقية وغامضة، متضمّنة لخيبة الامل والندم والاحباط، مثل "استرجاع الدولة الوطنية"، و"الزعيم الراحل" و "محاربة أعداء الوطن" و "استرجاع البلد"، و"التغلغل في مفاصل الدولة"، و "المافيا السياسية " وغيرها من الشعارات الخاوية من مضامين لكن سهلة الاستساغة، تستقرّ في اللاوعي الجمعي وتُؤخذ بالوكالة على انّها منطلق معركة ضد الاخر، ضد النظام، ضد الديموقراطية كآلية لإدارة الخلافات.