خلُصت قمة البريكس الاخيرة المنعقدة في جوهانسبورغ الى الاعلان عن جملة مفاهمات (غير مفصلة بالكامل) لعل اهمها
(1) التوصية باستعمال العملة المحلية والالكترونية، و
(2) انضمام ثلاث دول عربية، اي مصر والسعودية والامارات. وقد دفع ذلك بعضَ التونسيين والجزائريين الى التعبير عن خيبتهم كما اخذ ذلك البعضَ الاخرَ على الانتقاد الموجّه الى القائمين على الشأن الديبلوماسي في هذيْن البلديْن. الاّ انّ القصة -حسب رايي- لا يمكن ان تُطرح بهذا الشكل الانفعالي او الانطباعي.
واذا وضعنا المسألة في اطار المرحلة المفصلية الحالية التي يمرّ بها تاريخ النظام الاقتصادي العالمي حيث بوادر "صعود اقتصاد سياسي جديد" بدأت ملامحُه تبرز منذ حواليْ عشرين عامًا وتتراكم عامًا بعد عام، فان المشهد سيزداد وضوحًا.
هذا، وتدل البيانات الى،
(1) تقلّص الفوارق في القوة الاقتصادية (حصة الاستحواذ على اكبر نسب من التجارة العالمية، درجة الانخراط او الاندماج في سلاسل القيمة، منسوب التنويع الاقتصادي في اجهزة الانتاج الداخلية، منسوب التعقيد الاقتصادي، نسبة راس المال للفرد الواحد) بين الاقتصاد الغربي الراسمالي وبعض الاقتصادات الصاعدة ذات التطور الاحتمالي السريع في المدى الطويل، وهي اساسا الصين والهند ومصر والسعودية والبرازيل والارجنتين وجنوب افريقيا.
(2) توسع الفوارق بين المجموعتيْن اعلاه من جهة، ومن جهة اخرى غالية الدول الاخرى التي مازالت مشاكلها مماثلة للمشاكل الاقتصادية في العقود الستة او السبعة الماضية بالرغم من التحولات الاجتماعية الحاصلة، ومنها جل الدول الافريقية بما في ذلك تونس والجزائر، ويُقاس ذلك بمؤشرات الهشاشة بنوعيْها (الاقتصادية الكلية والتنموية، من مخاطر عدم استدامة المالية العامة والدين، وعدم ارتقاء المستثمر سواءً العام او الخاص الى التحديات الاقتصادية المُستحدثة وضمان حد ادنى من الاكتفاء الذاتي الغذائي مثلا و/او الطاقي، بما يهدد السلم الاجتماعية والاستقرار المؤسسي..).
ومن دلالات هذه المرحلة الانتقالية نحو اقتصاد سياسي جديد هو :
(1) التغافل عن مرجعية تحرير التجارة العالمية -كمبدإٍ جامع لمنظمة التجارة العالمية- من قِبل اكبر الدول في المنتظم الدولي باعتماد اجراءات حمائية وعقوبات اقتصادية في سياق الاسراع بالانتقال الطاقي (الحد من الخضوع الى الطاقة الاحفورية المسيطر عليها الدول الصاعدة) بما يتضمن ذلك من ردود الافعال التكتلين-الحمائية من مجموعة الدول الصاعدة، و
(2) عدم الخصوع بالضرورة "للعقلانية الاقتصادية" -كمرجع جامع للفكر الاقتصادي الحديث- المعهودة للدول الصاعدة في حبك استراتيجياتها وادارتها الشان الاقتصادي والسياسي الداخلي، مما يستدعي الالتجاء الى "الاقتصاد السلوكي" او "التجريبي" او مرجعيات اخرى، حتى يتسنّى تحديد الملامح الثابتة -ان وُجدت- لهذا الصعود. وكأنّ هذيْن الامريْن (1-2) باتا من الضروري ان يُؤخذا بالاعتبار من هنا فصاعدا في النمذجة الاقتصادية وفي التحاليل وفي التوصيات من حيث السياسات الاقتصادية والاصلاحات.
وفيما يتعلق بانضمام دول عربية بعينها دون اخرى، فان التاريخ يبيّن
(1) ان التوسع الاقتصادي امر حتمي ولا يمكن ان يتمّ الا على حساب مصالح الدول ذات الاقتصاد الاقل قوة او الفاقدة لمقومات الاقتصادات المتينة، وتكون عادةً متاخمة جغرافيا للدولة الصاعدة،
(2) انه لا يمكن للتوسع ان يحقق اهدافة الا بدفع من "ايديولوجيا" معينة تتقبلها شعوبُ الدولة الصاعدة والمتوسِّعة (المسيحية الكاتوليكية في اوروبا الغربية، البروتستانية في اقصى الغرب، الشيوعية عند انشاء الاتحاد السوفيتي، "السلام العالمي" ابان الحرب العالمية الثانية وانشاء السوق كمؤسسة مرجعية،…)
وانطلاقا من خبر عدم ضمّ تركيا الى البريكس، وهي التي تتوفر فيها تقريبا جل الشروط الاستراتيجية المذكورة اعلاه- ربما اكثر من الدول العربية الثلاث التي انضمت للبريكس- فانّ هناك تساؤلات قد ينفرد بالإجابة عليها قادة البريكس التاريخيين، واولها الصين التي :
(1) بالرغم من تحقيقها اشواطا في التطور العلمي والتكنولوجي، لن تتجاوز الدول الغربية في الاجل المتوسط، والتي
(2) تمر بمصاعب هيكلية جرّاء العقوبات الامريكية، افضت هذا العام الى :
(أ) موجة هجرة من اصحاب موسسات الى دول اخرى جراء قيود السياسات الداخلية،
(ب) بوادر ازمة مالية بتفاقم ديون "المحليات" وتوسع القطاع غير الموازي البنكي الى حوالي 40٪ بالرغم من "برنامج ايقاف المديونية" الذي انطلق عام 2016،
(ج) في حاجة الى تعزيز اكتفائها خاصة في مجال التكنولوجيا الحديثة (قطاع اشباه المواصلات)، و
(د) ارتباطها بالدولار ولو بسبب السندات الحكومية التي بين ايديها.
ولهذا فان مصالح الصين الجيواقتصادية ظلّت واضحة جراء انضمام الدول العربية الثلاث التي تمثل سوقا شاسعة لتسويق انتاجاتها ومصْدرا مهما لضمان التزود بالطاقة الاحفورية وكذلك الانخراط في المسالة اللوجستية بالمنطقة، وقد يساير ذلك اتفاقات امنية استراتيجية. الا ان هذه الدول الثلاث لها ان تنتفع من انضمامها للبريكس حتى في الاجل المتوسط.
فإلى اي مدى ستكون الصين قادرةً على استدامة استراتيجياتها التوسعية، والى اي مدى يمكن للدول حديثة الانضمام للبريكس الاستفادة استراتيجيا منها؟ وهل ان للبُعد الثقافي والاجتماعي دورا في الاجندات، سيما وان هذه الدول التوسعية (الصين، الهند، روسيا) ليست لها الى حد الان نموذجا اجتماعيا تصدّره في ضوء تجربة الاتحاد السوفياتي وعلى عكس المشروع الغربي الليبرالي؟