أعتقد أنه لا فائدة في الحديث عن محدّدات الوعي بالواقع وعن انخراط من يعتبرون أنفسهم "مواطنين" في الشأن العام، وأنّه لا فائدة في العودة الى المخاطر التي تحدق بالمسار الانتقالي برُمّته، ولا جدوى من الحديث عن مقوّمات بناء القدرات المؤسّسية للدّولة وأولويّة المسألة الاقتصادية على سائر المسائل الأخرى، ولا هدف من الاستئناس بالتجارب العالمية.
أعتقد كذلك أن الحديثَ عن استدامة الدّين والموازنات الاقتصادية والمالية الكُبرى لا مصلحة من ورائه، وأنّ التطرّق الى معضلة البطالة والتهميش الاجتماعي وسُبل المالية الشاملة والتخطيط الاستراتيجي المحلي والإقليمي والدّولي بما يتضمّنه من مناهج علمية معترف بها عالميا، لا نفع من ورائه. فكل هذه القضايا قد تم التعرّض اليها مرارا وبدرجات تفصيل متمايزة في سلاسل من المداخلات والنشريات من قِبل العديد من الأصوات والاقلام المستقلّة منذ عشر سنوات. لا فائدة من كل هذا للأسباب التالية:
1. أصحاب القرار مبرمجون على القيام بعكس ما وجب القيام به : إذْ بقدر ما تُقترحُ حلولٌ ميدانيةٌ بتباينٍ في دقّتها، ومن المفترض أن يستفيد منها صاحبُ القرار في القيام بالاختيار الأصوب -خاصّة في المجال الاقتصادي والنقدي- بقدر ما يواصل هذا الأخير بالجنوح نحو الخطاب السّطحي والانشائي والتبريري لأخطاء بدائية، وتعيين قليلي الاطلاع وعديمي التّجربة والنّكرات المروّج لسيرهم الذاتية من قِبل اعلام متضمّن لأمّيين في أغلب القضايا المصيرية، في المواقع غير المناسبة. فتضيع فرصةُ الإصلاحات الحقيقية ويعجز القائمون على الشأن العام في النأي بالبلاد عن تعاظم التحديات واستعصاء الحلول مثلما هو الحال.
2. فشل النخبة السياسية في إدارة الانتقال فتح الباب على مصراعيه لتصدّر الفوضويين والشعبويين المشهد والقرار. وقد استدللنا علميا بما أوتينا من اطلاع متواضع على الأدبيات والتجارب المقارنة، على أنّ هدف هؤلاء إنّما هو هدمُ ما تمّ انجازه ولو كان ضئيلا، وذلك انطلاقا من إحداث الجدل الخاطئ وترذيل واضعاف المؤسّسة الرّسمية واذلال الدّولة. فلا تجد في هذين التياريْن علماء ولا حكماء ولا أصحاب نظر ولا خبراء، الا المتسلّقين والوصوليين والسّذّج والغُشماء وفي بعض الأحيان عديمي الأدب. بل امتدّ نطاق وقعهم على مصير البلاد من خلال انخراط "أصحاب رأي" بالوكالة مستثمرين في الازمة لضرب الخصوم السياسيين.
فالذين انخرطوا في الفوضى غير الخلاّقة وفي الشعبوية الخبيثة، والذين قبلوا بشطحات "اللّجان الشعبية" التي لن تر النور، والرجوع الى الحكم الاوتوقراطي الذي لن يدوم حتى ولو رجعت البلاد الى المربع الأوّل، والذين انتسبوا الى "ضد السيستم" بدون بدائل، كلّهم يقفزون الى الامام، بل الى الفراغ.....
فما الذي يمنع السياسيين الوطنيين من التعامل بعقلانية مع ما يجري من مخاطر نظامية؟ أعتقد أنّ هناك أولويتان وهما :
(1) التغيير الفوري للقانون الانتخابي وانشاء المحكمة الدستورية في حزمة واحدة وفي أسرع وقت، أي الشروع في ذلك هذا الأسبوع، و
(2) اعتماد برنامج " التعديل الاقتصادي الكلي" المعروف في الأدبيات والتجارب (قد أرجع اليه في مناسبة أخرى)، والتخلي عن قصّة كتلة الأجور الفاضية الشبيهة بقصة شهرزاد المملّة، والتي استرزق منها العديد من المتداخلين في الشأن العام.
فهل يمنع استعجال القيام بــ :
(1) و(2) أعلاه الاّ المصالح السياسية والشخصية والحزبية الضيقة؟