اعتقد انّ بعض النخب السياسية وبعض وسائل الاعلام - وليست كلها بطبيعة الحال- استثمرت خلال السنوات الاخيرة في عددٍ من "الفجوات" لعلّ أبرز ها التالية:
(1) فجوة التفاوت بين الناس من حيث مستوى التعليم/الاميّة :
اذْ لا ينكر أحدٌ انّ التعليم هو حجر الاساس لتعميم الوعي بالقضايا المشتركة، وأن نظام التعليم قد وظفه السياسيون منذ عقود وطوّعوه لأجنداتهم وما دائما محلّ تجاذبات.
فتهمّش وتعمّقت فيه الهوّة بين التعليم العام والخاص وبين المناطق الى ان فقد المُعلم موقعه الاعتباري ومرجعيته الاجتماعية وانقلبت من ثمَّ مقاييسُ النجاح الاجتماعي وتقهقر ترتيبُنا العالمي في السنوات الالفين وما بعدها. كما ضعفت عمومًا قدراتُ التركيز والدقّة والاستقلالية الفكرية لدى عدد من الناشئة المتعلمة حيث اختار جزءٌ منها اسبقية الظهور الاعلامي على الاستعداد القَبْلي للخوض في المسائل العامّة، وهزلت بعض الشخصيات العلمية، واصبح الوصول الى مصادر المعرفة وبالتالي الى المهارات صعبًا وفي حالاتٍ مستحيلاً الاّ للقلّة المتميّزة.
وحصل تفاوت ضمن الاجيال وبينها الى ان بلغ عددُ الاميّين -بالمقاييس الحديثة- حواليْ مليونيْ تونسيّ ! وهو أمر خطِر على حاضر ومستقبل البلاد، ذلك الدول التي احرزت تقدما خلال القرن الماضي هي تلك التي اولا للتعليم والعلم المكانة التي يستحقانها. وبدعوى "التبسيط" و"التسهيل" حتى "يستطيعَ ما سُمّي "مواطنًا عاديّا" وفي بعض الاحيان "مواطنًا بسيطًا"، فهْمَ البرامج الاعلامية (اي غير القادر على الفهم والاستيعاب) وكانّ المواطن الذي يفهم القضايا الحوارية هو "غير عادي")، اذْ كثيرا ما يفرض منشط البرنامج على ضيفه ان يتحدّث "ببساطةٍ" في اهم القضايا المعقّدة الى حدّ افراغها من محتوياتها بل يناقضه من خلال جُمل لُغوية "مستهلكة" ومسطّحة، يتسطّح من خلالها الوعي، مثل "التونسيون مستاؤون" او "فرحون" او "غاضبون"، او "الشعب قال كلمته" يوم 25 جويليا باستناد الى سبر آراء غير مراقَب وبدون ذكر الدبابات المنتشرة كما دعا الى ذلك عبّو… او "هذه الحكومة فاشلة" او "تلك الحكومة هي الافضل منذ عشر سنوات"،… الى غير ذلك من الغباء المستشرى عبر عددٍ من وسائل الاعلام ولدى جزء من العامّة المرتهنة لمواقف انطباعية تخدم جهةً دون أخرى.
والحال انّ القدرة على التبسيط ليست متاحةً لكل الناس في العالم، فضلا عن مُخرجات النظام التعليمي المحلّي الذي يفتقد آليات التقييم العالمية سواء في المرور من مستوى الى آخر او حتى في المناظرات… واذا لم يكن الحوار ذا محتوى علمي او تخصّصي، فان بعض الاعلاميين يُخصّصون اوقاتا طويلةً للإشاعات الفيسبوكية او الاخبار الجانبية او لِنَكِراتٍ قدّموا انفسهم على انهم خبراء او مفسّرون او أشخاص طبيعيون. وكأن هناك اشخاصا غير طبيعيين، او اصطناعيين، او كان على عموم الناس ان يعرّفوا انفسهم على معنى "القانون التجاري" الذي يميّز بين الاشخاص الطبيعيين والمعنويين وهو تعريف وظيفي، جزئي وركيك، كانت الاجابة عليه اكثر تسطيحًا وهي "عليك الاّ تتابع هذه البرامج" بمعنى انّ الحلّ ان يغمض المواطن عينيْه عمّا يراه من تبلّد ذهني وألاّ ينخرط بالتالي في الشأن العام!
(2) فجوة التفاوت بين الناس من حيث المصالح:
من المريب ان يتحدّث "خبير" تقريبا بصفة قارة في مسائل اقتصادية او مالية، وهو في نفس الوقت صاحب مكتب دراسات خاص، يقتات منه لفائدة جهات معينة او مجموعة ضغط بعينها. فمعضلة البطالة مثلا، تمّ "الحسم" فيها بالاقتصار على انّ نظام التعليم هو الذي لم ينتج كفاءات مناسبة وهو جانب :
(أ) العرض فقط، بدون الاهتمام بجانب
(ب) الطلب الذي لم يطوّر مناهج انتاجه ولم يطأْ قدما في البحث والتطوير الصناعي واللوجستي اللازميْن ولم يأخذ بالمبادرة في الشراكة الجديّة والاستراتيجية مع الجامعات الاّ ما ندر، مع تجاهل دور
(د) سياسات التشغيل وهي الركن الثالث للمشكلة.
غريب ان يتحدّث "خبير" عن ميزانية الدولة مثلا وهو في نفس الوقت موالٍ لمجموعة من مجموعات البحث عن الريع، فينتقد الاجراءات التي تحدّ من ريعه مثلا بدون حضور ممثل عن الحكومة، او انّ مجال اختصاصه لا يتيح له الفرصة في حياته ان قام يوما بإعداد ميزانية دولة او انخرط فيها فعليا ولم يشهد التحدّيات الميدانية التي تصاحبها. وغريب ان يتحدّث متخصص في ميدان ما بحضور اشخاص عدّة من مشارب فنية ورياضية وغيرها يدلون برأيهم في قضايا معقّدة بطلب من الاعلامي وشغفا منه بالاطلاع على موقفه الشخصي في امور يجهلها قطعا، وغريب ان يقبل ذلك المتخصص الدعوة الى هذه البلاطواهات التهريجية!
(3) فجوة التفاوت بين الناس من حيث الوعي:
من تمظهرات الوعي ان يتمّ استعمال كلّ أو جلّ ابعاد اي قضيّة، اذْ كلّ مشكل سياسيا كان او اقتصاديا -لانّه مشكل- انّما هو متعدّد الابعاد بالضرورة ويحتاج الى معلومات دقيقة ومتعددة. فلا يمكن تحميل حل التضخّم على السياسة النقدية، ولا يمكن الاقتصار على كتلة الاجور لتوسيع الحيّز الجبائي، ومستحيل ان نسجّل نموا عالٍ بدون سياسات صناعية وتجارية موجّهة، وغير صحيح ان يُعتبر فشل الانتقال الديموقراطي من عمل النخبة السياسية فقط- حتى وان كان اداؤها الاجمالي ضعيفا.
فالشعب الذي لم ينخرط فيها بتاتًا وفعليا هو مسؤول، وكذلك النخب المثقفة ونقابات العُمّال والاعراف، والفنانون، والاعلاميون، والمثقفون. كلهم مسؤولون وما كان لهم ان يكونوا متفرّجين لانّ الديموقراطية ليست هِبةً من السّماء ولا تُمطر ذهبا بمفردها للذين لم يحلموا بها يوْمًا ولم يحركوا ساكنا لتثبيتها. هذا ما تفيد به التجارب الانتقالية الناجحة في التاريخ الحديث. ومن هنا ينخرط بعض الاعلاميين والمثقفين وأنصاف السياسيين في شجب الديموقراطية وشخصنتها متوجهين بإصبع الاتهام اليها بانها مغشوشة او انها ليست ضروريةً وهذا من سبيل الهرطقة والمس من قيم الجمهورية وترذيلها.
(4) فجوة التفاوت من حيث الذاكرة الجمعية:
تفيد بعض الدراسات انّ التعاطي الاولي او الفوري مع الاحداث الهامّة يحدّد طبيعة وعي الناس بها على المدى البعيد حيث لا يبقى في الذاكرة الجمعية الا اهمّ العناوين الغامضة او التقريبية في الذهن والتي تسهّل على الناس استيعابها وفق درجة ادراكهم لها ودقة ونطاق اطّلاعهم، خاصّةً عندما يعمد صنّاع الراي التكرار ليلا نهارًا لنفس القراءات الجزئية، او السطحية، او الساذجة، او المغلوطة.
فلم يبق من هتلر الا انه نازيٌّ معادٍ للسامية في حين انّه انجز كذلك ما وعد به في الحملة الانتخابية واكثر من ذلك من اهداف اقتصادية، ولم يبق في الذاكرة الا عبد الناصر البطل في حين انه خسر الحرب تجزّءت مصر عن السودان وصعدت في عهده طبقة زراعية ارستوقراطية فضلا عن انقلابه العسكري وتضييقه للحريات.
وفي نفس السياق يبدو انه لم يبق في الذاكرة الا ان العشرية السابقة كانت "سوداء"، وكأنّ الذي اختلق هذا الوصف سائحا بصدد تحليل نص أدبي روائي يحدد فيه الشخصيات والادوار وفي الحقيقة كل التونسيين وكل الاطراف وكل المؤسسات تتماثل في قراءتها لنفس النص! وكأنّ العشرية الاسبق كانت انوارا وتنميةً وازدهارا الى ان عشقها التونسيون وتشبثوا بها، وان الدين هو مظهر تخلّف وانّ الحداثة تتعارض مع القيم والانماط الثقافية المحلّية وان المساواة بين المرأة والرجل منحصرة في الميراث وانّه على الآراء المخالفة ان تُمحى من البلد!
والحال انّ هذا الصراع ايديولوجي بالأساس ترجع منابعه الى نحو قرن من الزمن، تديره نخبة فاشلة بأيادي جيل ثلاثيني او حتى اربعيني لا يهتم ولا يعرف لا عصمت سيف الدولة ولا علي شريعتي ولا ابو الحسن بني صدر ولا ميشال عفلق ولا صلاح بيطار ولا المودودي ولا الافغاني ولا زينب الغزالي الاّ من زوايا احادية الابعاد تتخذ من العناوين الصحفية محتوى ومن المواقف الايديولوجية تحليلا موضوعيا…
فترسخت فكرة الخوف على المستقبل وعلى النمط الاجتماعي الذي لم يقُل علماء الاجتماع التونسيون كلمتهم حوله في الفضاء العام وبات الصراع في الاذهان بين ارهابيين معاديين للوطن من جهة ومسالمين انقياء وطنيين حداثيين من جهة أخرى، عوض ان يكون صراعَ تنميةٍ وسيادة وازدهار وكدّ وعمل وعدم اضاعة الوقت الثمين.