قد يخطئ البعض توصيفَ الاعلام التونسي سواءً بالتعميم -وهذا فخّ منهجي- او بالشتم -وهذا فيه عنف- او بالتقييم -وهذا حمّال للحيف لانّه يحتاج الى اختصاص.
ومن ناحية أخرى، قد يعتبر الاصدقاءُ المتخصصون في مجال الاعلام انّ تعابير المواطنين السلبية حيال دور الاعلام الذي ينتظرون، فيه استهداف واستهتار بهم، حيث يظن البعض منهم انها حملة "ممنهجة" ضدّهم، او هرطقة من عديمي الاختصاص.
واعتقد، انّه لا هذا ولا ذاك، حيث انّ،
- مفهوم الاعلام لدى العامة هو ذالك المحتوى المروّج له عبر كل الوسائط السمعية والبصرية من تلفاز واذاعة ويوتيوب وفيسبوك ومجلاّت. ويقرب مفهوم "الاعلام" الى الذهن كلّما أخذت هذه الوسائط طابعا اقرب للرّسمية وللمأْسسة.
- كلّ ما يأتي من المواطن من مواقف حول الاعلام انّما هو تعبير طرفي وذاتي عن مدى الرضا وتقييمٌ من مستهلكٍ لمُنتج، وجب أخذُه بالاعتبار.
- يعبّر المواطن المجرّد المتوسط عن استحسانه للإعلام او خيبته منه كلّما اصبحت مصلحته المادية او المعنوية، الشخصية او الجماعية كما يراها، مدعومةً او مهدّدةً من خلال المحتوى المروّج له. فقد صعدت النعرات القومية والقبلية والجهوية في كل الازمات وذلك بشعور الانتماء والخوف على مصير الهوية، التي هي مادّة للترويج السياسي او الايديولوجي في نفس الوقت (الامة الدولة تحت بيرنار، توحيد ايطاليا تحت ڤافور، النازية، الطائفية في لبنان،..)..
- ما بقي في الاذهان من عشر سنوات خلت متضمّنة لنشاط دؤوب في قطاع الاعلام التونسي، قد يكون الاكثر كثافةً والاسرع وتيرةً خلال عشرات السنين الماضية، هو انّه،
(1) كان إعلامًا ذا سلطة قوية جدا ساهمت الى حدّ كبير في وقت معيّن في تحديد مصير البلاد في الجانبيْن، السياسي والثقافي، وأثّرت ايّما تأثيرا في مستوى الوعي الجمعي بالقضايا المشتركة.
(2) صنع الاعلام التونسي، على تباين محطاته، شخصيات مؤثرة في الرأي العام، فيهم قلّةٌ بثّوا الوعي في مجالات الاختصاص (في الحقوق والاقتصاد خاصّةً) وكثرةٌ خضعوا لآليات السوق بدون حدود التعديل وساهموا في تسطيح الوعي (في الحقوق والسياسة والاقتصاد).
(3) بالرغم من الفضاء الشاسع للحريات، كان اعلاما محليّا في مجمله ولم يرتق الى المستوى العالمي كمّا وجودةً، حيث الاحداث المؤثرة فينا انّما غالبية مراجعها من الخارج. فنجد محطات اعلامية تنشر تحقيقا او مقابلة حوارية مع شبه فنان او سياسي استهلكه التونسيون ليتلقى نفس الاسئلة ويجيب عنها بنفس الاجوبة، في الوقت الذي تنعقد فيه قمّةٌ عالمية ذات المخرجاتً المؤثّرة حتما على مستقبل المنطقة والبلاد وواقع التونسي في آخر المطاف!
- غلبت على ما يسمى بتقارير اعلامية وتدخلات الكرونيكارات، مواقفُهم الشخصية والتي هي الاقرب الى الظن مواقفُ مشغّليهم الى حدّ التشنّج والحماس غير المبرّرين وبالتالي استهانة بالطيف في بعض الاحيان بمقاطعته بدعوى التفاعل واستفزازه بدعوى سلطة الاعلام، وتضخيم صغائر الامور والتقليل من اهمّها، ومن ثمة يُرتهن وعي المتابعين ويُستثمر في تسطيحه. وهذا واقع.
- كان الاعلام في أغلبه مسرحًا للتجاذبات السياسية والاقتصادية، بحيث اصبح المتلقي عارفا ان هذا الجهاز الاعلامي تابع لهذا الشق والاخر للآخر.
- فيما يتعلّق بالجانب الاخلاقي، ببث في بعض القنوات قصص هابطة وعنف لفظي وتفسّخ ومساهمة في قلب مقاييس النجاح الاجتماعي والربح السهل والدوس على المعتقد وتفكيك المشترك، فانّه من الغرابة ان يردّ بعض "الاعلاميين" على منتقديهم بأنهم "ينقلون المجتمع كما هو"، وانه على المتلقي "ان يغيّر مشاهدة القناة بقناة أخرى". فانّ في ذلك عدم فهم للدور المجتمعي للإعلامي فضلا عن وطنيّته، ذلك انّه يراهن على فضول الكهول بمتابعتهم للأمور "الجلل" وعلى نقاء وبراءة القُصّر في استهلاكهم التلقائي لأكلة ثقافية تهدد كيانهم، وتلك هي الخطيئة الاصلية، لانّه كان عليه ان يرتقي بالوعي وبالذوق العام لا النزول به الى القاع، فانّه على عكس المتلقي يعرف جيدا سلطة الاعلام ووقعه في تحرير العقول او في إقفالها.
وعلى كل حال، اعتقد انّه لن يبق في محال الاعلام الاّ الراسخون بالمهنية وبالخطاب العقلاني ولانّ الناس بطبيعتهم يبحثون عن الحقيقة وينتهجون في آخر المطاف نهج المُثل، عاجلا ام آجلا.